عن مشروعية التنظيم
1- مقدمة :
التنظيم مظهر من مظاهر الكون وسُنة إلهية وضعها الله في كل مخلوقاته من جماد وحيوان وإنسان، فالأفلاك والذرات تقوم على حركة دقيقة، وجميع مظاهر الحياة تأتي منتظمة مرتبة لا تعرف الخلل ولا التخلف، بل إن الحشرات كالنمل والنحل وغيرها تنظم حياتها تنظيماً دقيقاً يدهش من رآه وتابعه.
والإنسان هو أفضل المخلوقات على وجه الأرض أعطاه الله العقل واستخلفه في الأرض ليعمرها ويقوم بواجب الخلافة في كل نواحيها المادية والمعنوية، وقد استمرت الحياة البشرية منذ آدم وإلى وقتنا هذا قائمة على الترتيب والتنظيم، فالفلاح ينظم عمله اليومي والسنوي ويرتب أموره، والتاجر كذلك يدرس أحواله ويحسب ربحه وخسارته ويخطط لعمله ، والحاكم يرتب أموره وينظم مجالات حُكمه، والمحارب يخطط لمعارفه ويدرس خططه ويستعمل عقله في أسرع وسيلة لهزيمة أعدائه، وهكذا تسير الحياة في كل مجالاتها على الترتيب والتنظيم الدقيق في كل الأمور، والأنبياء صلوات الله عليهم هم أفضل الخلق وأشرفهم وأسماهم قصداً شرفهم الله بالدعوة إليه وصرف أنظار الخلائق إلى دينه، دعوا إلى الله على بصيرة فعرفوا هدفهم وساروا إليه بإصرار وإخلاص ورغبة فيما عند الله، فهل كانت دعواتهم قائمة على الارتجال وعدم الترتيب؟ وهل يعقل أن كل البشر من أصحاب الأغراض المادية كالزراع والتجار والحكام بل وأصحاب الدعوات الباطلة تقوم أعمالهم على الترتيب والتخطيط والتفكير السليم بينما تقوم دعوة الأنبياء على الارتجال وعدم التخطيط؟ ودعوة الإسلام ونبيها محمد هي أفضل الدعوات وآخرها وهو آخر الرسل والأنبياء وأفضلهم وأشرفهم هل يمكن أن تكون دعوته أيضاً قائمة على الارتجال وعدم الترتيب؟ إن هذا مما يخالف بدائه العقول السليمة ولا يتفق مع واقع هذه الدعوة العظيمة دعوة الإسلام وواقع هذا الرسول العظيم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وهذا هو ما سنراه إن شاء الله من خلال هذا البحث المتواضع.
2- ما هي دوافع الذين يقولون بأن دعوة الرسول ليست منظمة ولا مخططة؟
أ- يقولون بأن دعوة الرسول هي دعوة الله والدين دين الله سبحانه، والرسول يمثل أعلى حالات التوكل على الله والثقة بنصره، فلا حاجة به أن يخطط وينظم لأن الله هو الذي يرعى دعوته ويوجهها وينصرها، وكل الكلام الذي يقولونه صحيح، فالدين دين الله والدعوة دعوته سبحانه والرسول هو أفضل الناس على الإطلاق توكلاً على الله وقُرباً منه، ولكن هل هذا يتنافى مع التخطيط والترتيب ودراسة الأمور؟ نحن نعلم وهم يعلمون أن من بديهيات العقيدة الإسلامية الصريحة الواضحة أن فعل الأسباب يتنافى مع التوكل، بل إن الله الذي أمر بالتوكل عليه هو الذي أمر بفعل الأسباب، والأمر واضح في العقيدة الإسلامية وليس هذا مكان سَوق الأدلة عليه من الكتاب والسُنة، أما أن الدين دين الله والدعوة دعوته جل وعلا وأنه هو الذي ينصرها فهذا صحيح، ولكن أبى الله إلا أن يجعل هذا الحياة ابتلاءً وامتحاناً لعباده المؤمنين وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، فجعل للجهد البشري دوره في نصره الدين لينال الأنبياء والرسل والدعاة أجرهم كاملاً، فهم سيحاربون بكل وسيلة ويقتلون ويصيبهم الأذى بأوسع معانيه ويَغلِبون ويُغلَّبون ويصيبهم القرح والبأساء والضراء والزلزال المادي والمعنوي، وفي ذلك من الحِكم ما ليس هذا مكان بيانه وإيضاحه، أما قدرة الله فلا تحدها الحدود فلو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لقضى على أعداء الأنبياء والرسل والدعاة في طرفة عين، ولكنها حكمته البالغة التي اقتضت أن تقوم هذه الدعوات على جهد البشر وتضحياتهم بالمال والنفس والجهد.
ب- يزعمون أن في تصرفات النبي دليلاً على ما يقولون، لاسيما في انفاق المال، وأنه كما يزعمون لا يبقي لديه من المال شيئاً، وسنرى من خلال هذا البحث أنه كان منظماً في تصرفاته المالية والدعوية والسياسية والعسكرية، وأن دعوته قامت على الهدف الواضح والتخطيط الدقيق في كل صغيرة وكبيرة.
3. مظاهر التنظيم في العهد المكي:
(1)- السرية في السنوات الأولى من الدعوة:
أجمعت مصادر السيرة النبوية بأسانيد ضعيفة وحسنة وصحيحة على أن الرسول عندما أرسله الله لم يعلن ذلك لكل الناس، بل سلك السرية في دعوته، فعرضها على أقرب أقاربه كزوجته السيدة خديجة وابن عمه علي ومولاه زيد وصديقه المقرب أبي بكر رضى الله عنهم أجمعين.
فروى البلاذري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر: “كان بَيْنَ أن نزلت النبوة على النبي إلى أن أمر بإظهار الدعاء ثلاث سنين، فكان دعاؤه ثلاث سنين مستخفياً”
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: “استخفينا بالإسلام سنة ما نصلي إلا في بيت مغلق أو شعبٍ خالٍ ينظر بعضنا بعضاً”
وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عنه قال: ” خرجت أنا وسعيد بن زيد وجناب بن الأرت وعمار بن ياسر وعبدالله بن مسعود إلى شعب أبي دّبَ نتوضاً ونصلي ونحن مستخفون….” وكل الروايات السابقة في البلاذري (جـ 1 ، ص 117) بأسانيد فيها كلها الواقدي، إلا أن قصة سعد الأخيرة أخرجها الأموي في مغازيه عن طريق الوقاحي عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه (ابن كثير، جـ 3 ، ص 37). وجاء في رواية البخاري ومسلم في إسلام أبي ذر الغفاري وجاء فيه “فأتى المسجد فالتمس رسول الله ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل فاضطجع فرآه عليٌ فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه ولم يسأل أحدهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك ولا يراه النبي حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به عليٌ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ فأقامه فذهب به معه ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان اليوم الثالث فعاد على مثل ذلك فأقام معه فقال: ألا تحدثي ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت، ففعل فأخبره قال: فإنه حق وإنه رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني فارني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أرين الماء وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي ودخل معه ” (البخاري جـ 6 ، ص 400) ، (المناقب ومسلم رقم 2474).
وإن النص السابق واضح كل الوضوح في اتخاذ نهج السرية في السنوات الأولى من البعثة النبوية.
وحديث إسلام عمرو بن عبسه السلمي في (مسلم رقم 832) قال: “أتيت رسول الله في أول ما بُعث وهو بمكة وهو حينئذ مستخفي…” .
وفي رواية أبي نعيم: “فسألت عنه فوجدته مستخفياً، ووجدت قريشاً عليه حسّراً فتلطفت له حتى دخلت عليه”(الدلائل ص 182).
وحديث ابن عباس في (البخاري رقم 4722 ومسلم جـ 1 ، ص 129) في سبب نزول قول الله تعالى﴿وَلا تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِت بِها وَابتَغِ بَينَ ذلِكَ سَبيلًا﴾(الإسراء:110) . قال: “نزلت ورسول الله بمكة متوارٍ فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن…”.
وتأتي قضية أولية الإسلام وترتيب المسلمين في إسلامهم دليلاً قوياً على اعتماد النبي على نهج السرية في السنوات الأولى من الدعوة وهذا واضح من تأمل النصوص الآتية:
أخرج البخاري (جـ 4 ، ص 192) كتاب الفضائل: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن عمار بن ياسر رضى الله عنه قال: “رأيت رسول الله وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبوبكر…”.
وأخرج الطبراني في(الكبير رقم 1617)، والحاكم في (المستدرك جـ 3 ، ص 342)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي عن أبي ذر القفاري قال: “كنت ربع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر…”.
يضاف إلى ذلك قصة مجي عفيف بن عمرو إلى رسول الله وقوله في نهاية القصة وهي طويلة: “لوددت أني كنت أسلمت يومئذٍ فيكون لي ربع الإسلام” وإسناده لا بأس به .
وأخرج البخاري (جـ 4 ص 212) كتاب المناقب: مناقب سعد بن أبي وقاص عن سعد قال: “لقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام…”.
وأخرج ابن اسحاق (ص 122) من المطبوع من المغازي عن عبدالله بن بريده قال: “انطلق أبو ذر وبريدة ومعهم ابن عم لأبي ذر يطلبون رسول الله وهو بالجبل مكتتم بطائفة من مكة …أي مختفي”.
وأخرج الحاكم في (المستدرك جـ 3، ص 313) كتاب معرفة الصحابة وصحيح إسناده ووافقه الذهبي عن ابن مسعود قال: “لقد رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا…”.
وروى ابن حجر في تعليق التعليق على البخاري (جـ 5 ص 242 ، 243) في قصة طويلة … فقال رسول للمقداد: “كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتلته، وكذلك كنت أنت قبل تخفي إيمانك بمكة” ، وذكر ابن حجر أسانيده المختلفة وشواهده وكأنه يرى أنه في درجة الحسن وإن لم يصرح بذلك.
وفي حديث إسلام عمرو بن عبسه في مسلم: ” لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام”، وقول رسول الله لعمرو بن عبسه لما سأله عمن معه على هذا الأمر “حر وعبد”.
ولنر تعليق ابن كثير رحمه الله تعالى على قول عمرو بن عبسه: “لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام “، قال: “فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم دع الأجانب دع أهل البادية من الأعراب والله أعلم” (البداية والنهاية، جـ 3 ، ص 31-32).
وكذلك علق ابن حجر في (فتح الباري جـ 7 ، ص 84) على قول سعد “وإني لثلث الإسلام” فقال: “قال ذلك بحسب اطلاعه والسبب فيه أنه كان من أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه”.
ويمكن أن نكرر قول ابن كثير وابن حجر في كل ما سبق من نصوص أولية الإسلام وترتيب المسلمين، وهذا من أكبر الأدلة على أن الرسول كان يرى التخفي في تنظيم أمور المسلمين في السنوات الأولى خاصة، واستمر على ذلك في بعض الجوانب بعد إعلان الدعوة والجهر بها، وسيرد ذلك في موضعه من البحث.
وروى ابن اسحاق في (المغازي ص 154) من المطبوع بإسناد فيه أبو جعفر الرازي وهو مختلف فيه عن أبي العالية وهو من كبار التابعين المفسرين – في قوله عز وجل: ﴿ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ… ﴾(النور:55)
فمكث رسول الله بمكة عشر سنين بعدما أوحى الله إليه خائفاً هو وأصحابه يدعو إلى الله سراً وعلانيةً …
وقال أبو نعيم في (الدلائل ص 189) : ” وكان فيما قاله عروة بن الزبير وابن شهاب ومحمد بن اسحاق – وهم علماء المغازي الكبار– من حين أنزل عليه ﴿ قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق:1) إلى أن كلف الدعوة وإظهارها فيما أُنزل عليه ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ (الشعراء:214) … ثلاث سنين لا يظهر الدعوة إلا للمختصين به منهم خديجة وأبو بكر وعلي وزيد وغيرهم رضى الله عنهم ، ثم أعلن الدعوة”.
ويقول ابن القيم في (زاد المعاد ، جـ 1 ، ص 34) : “وأقام بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفياً”.
وكل الأخبار السابقة وتعليقات العلماء تؤكد منهجه في التخفي في بداية الدعوة وحاجتها إلى الحماية.
وقد استمر النبي في استعمال السرية في حماية الدعوة بعد الإعلان الكامل للدعوة وذلك بإخفاء جوانب من حركة الدعوة وليس بإخفاء مبادئها، وذلك من خلال إقامة دار الأرقم وهي دار الصفا التي كان النبي يستقبل فيها أصحابه ويعلمهم أمر دينهم ويؤدون فيها صلاتهم ويرتبون فيها أمور الدعوة.
وقد ورد ذكر هذه الدار –دار الصفا- أو دار الأرقم- في رواية لابن عبد البري الاستيعاب بهامش الإصابة عن سعيد بن الحكم بن أبي مريم وهو ثقة عن عطاف بن خالد وهو مختلف فيه والأكثرون على توثيقه عن عبدالله بن عثمان بن الأرقم عن جده الأرقم وعبدالله ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلا ( جـ 1 ، ص 107) ، وذكر ابن حجر هذا الإسناد في الإصابة ، (جـ1، ص 28) عن ابن مسنده وقواه وصحح الذهبي نفس الإسناد في (المستدرك جــ 3 ص 503) ولكنه عن عثمان عبدالله وليس عبدالله بن عثمان، وروى خيثمة الإطرابلسي في تاريخه قصة طويلة وفيها ذكر دار الأرقم والتخفي والتنظيم في الدعوة ولكن إسنادها تالف (البداية لابن كثير ، جـ 3 ص 29 – 31).
واشتهر أمرها بين أهل السير والأخبار وأرَّخُوا بها: فلان أسلم قبل الدخول بدار الأرقم، وفلان أسلم في دار الأرقم ، وفلان أسلم بعد الخروج من دار الأرقم.
ويقول الدكتور إبراهيم علي محمد أحمد في كتابه قراءة لجوانب الحذر والحماية في السيرة: ” (إن أول من دعاه الرسول زوجه السيدة خديجة، وعلى ابن أبي طالب ، ومولاه زيد بن حارثة وحاضنته أم أمين) رضى الله عنهم أجمعين، (البخاري باب بدء التوخي ، جـ 1 ، ص 2-3) ، والمتأمل في هؤلاء النفر الكريم يجدهم جميعاً تضمهم أسرة واحدة هي أسرة رسول الله ، ولا يخفى ما في ذلك من جوانب الحماية فهؤلاء أقرب الناس إليه وأعرفهم به وبصدقه وإخلاصه، وحسن سيرته لعشرتهم له، وهذا مما جعلهم يؤمنون عن اقتناع ويقين وهو ما حدث فعلاً ، وهذا النوع من الإيمان هو ما تتطلبه المرحلة فهؤلاء يكتمون السر ولا يفشونه، كما أنهم يساعدونه في تحمل أعباء الدعوة ويخففون عنه وطأة العناء…”.
“فهؤلاء أعانوا الرسول صلى الله عليه وسلم في مهمته وهيأوا له الجو الصالح للدعوة، ولم تثقل أسرته كاهله بأعباء ثانوية، وهذا النفر الكريم كانوا أول نواة للدعوة مما ساعد على الانطلاق بعد ذلك من البيت إلى خارجه، وبهذا فات على الأعداء سلاح كان يمكن أن يستخدموه ضده عندما يعرض الدعوة عليهم فيقولون له مثلاً : اذهب وقوم بيتك أولاً ثم ائتنا ثانياً.
لقد ضمن الرسول جانب أسرته إذ لم يكن داخلها من لا يؤمن بالدعوة، فوجود أي فرد غير مؤمن بالدعوة داخل الأسرة قد يسرب معلومات عن تحرك الداعية ولقاءاته ومن يترددون عليه، وقد يكون البيت موضع الوثائق الخاصة بالدعوة، أو تلك التي تحوي خططاً مستقبلية للدعوة فأي تسرب لها سيؤدي إلى الضرر البالغ بالدعوة والمدعوين.. لذا حرص النبي على دعوة وإقناع كل أفراد أسرته أولاً”.( ص 36-38).
ويعلق الكاتب السابق على اختيار دار الصفا (الأرقم) قائلاً: “وربما وقع الاختيار عليها دون سواها لاعتبارات وميزات أمنية تفردت بها عن غيرها تتمثل في الآتي:
1- تقع هذه الدار على الصفا وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، ولا تخفى هذه الأهمية الأمنية لهذا الموقع فكونها في معزل يجعلها بعيدة عن مراقبة قريش الأمر الذي يجعلها محاطة بالسرية ولا تحتاج عملية الوصول إليها أو الخروج منها إلى كبير عناء أو احتياطات معقدة،، كما أن بُعدها عن مجالس قريش يزيد من ميزتها فمجالس قريش عادة ما يدور فيها الحديث عن الرسول وصحبه فإذا كانت قريبة من تلك المجالس سهل رصد ومراقبة القادمين إليها والخارجين منها.
2- كما أن لموقعها أسفل جبل الصفا ميزة أخرى تضاف إلى ما سبق فلو كانت في أعلاه لأصبحت مكشوفة وسهلت مراقبتها.
3- كما أن الدار ليس فيها موضع يمكن أن يستغله أعداء الدعوة فيطَّلعوا من خلاله على ما يدور بداخلها وهذا مما يجعل ما بداخلها بعيداً عن أين الأعداء.
4- يضاف إلى ذلك أن صاحبها الصحابي (الأرقم) لا يمكن أن يبوح بسر إعطائه هذه الدار للمؤمنين هذا بخلاف ما إذا كانت لكافر.
5- كما أن الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه ولم يعلن إسلامه بعد فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء الرسول وأصحابه بداره.
6- أضف إلى ذلك أنه كان فتىً عند إسلامه فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره (هذا أمر ليس مُسَّلماً بل ورد أنه كان من شيوخ الصحابة ، وليس من المعقول أن يكون لابن السادسة عشرة دارٌ مستقلة تخصه)، ويوم أن تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي لا يتوقع أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب رسول الله بل يتجه نظرها وتفكيرها إلى كبار الصحابة رضى الله عنهم .
7- هذا إلى جانب أن الأرقم من بني مخزوم التي كانت تحمل لواء الحرب ضد بني هاشم فلو كان الأرقم معروفاً بإسلامه لصعب أن يكون اللقاء في داره لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفدن العدو(ص 38- 40) نقلاً عن المنهج الحركي للسيرة النبوية لمنير الغضبان . ثم يقول : “ويلاحظ أن هذه الدار محاطة بالكتمان التام ولم يرد – فيما أطلعنا عليه- أن قريشاً داهمت ذات يوم هذا المقر السري، بل أقصى ما توصلت إليه هو شكها أن يكون اللقاء في دار عند الصفا ، ومما يدل على ذلك أن قيادياً مثلم عمر بن الخطاب عندما أراد إعلان إسلامه لم يعرف مكان النبي ….” (مع ملاحظة ضعف هذه الرواية) – أي رواية إسلام عمر هذه .
ثم يقول: ” ولعل تنظيم الدخول والخروج من العوامل الهامة التي ساعدت على الاحتفاظ بسرية المقر فعملية الدخول والخروج إذا لم تنظم تعتبر من أخطر الجوانب الأمنية التي يؤدي إغفالها إلى كشف ومعرفة المقر، وهذا التنظيم الدقيق يظهر لنا من خلال موقفين :
الأول لسيدنا علي مع سيدنا أبي ذر رضى الله عنهما فعندما أراد سيدنا علي أخذ سيدنا أبي ذر إلى دار الأرقم لمقابلة الرسول اتفق معه على مصطلح معين في حال وجود مراقبة أو متابعة من قبل الأعداء فقال له : “إن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي” وفي لفظ: ” كأني أريق الماء فامض أنت”.
وبناء على هذا النص يتجلى الاهتمام بعملية الذهاب إلى المقر فهو يدل على أن علياً كان يراقب الأعداء أثناء ذهابه إلى المقر فإذا من يراقبه غير وجهته وأمر أبا ذر هنا أن يغير وجهته بقوله : “فامض أنت” . (ص 38-41).
والموقف الثاني هو موقف أم جميل وأم الخير مع أبي بكر لما ضرب في القصة المطولة التي رواها خيثمة الأطرابلسي في تاريخه وأوردها ابن كثير كما ورد إسنادها ضعيف جداً .
(2)- تكوين المجموعات الدعوية الصغيرة (الخلايا):
من مظاهر تنظيم الدعوة في العهد المكي تكوين الخلايا أو المجموعات الصغيرة، وهي مجموعات متكافلة مادياً تجتمع لتعلم القرآن وتدارس الدين وأداء الصلاة جماعة، فنجد في قصة إسلام عمر – على ضعفها- : ” فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها مطلع سورة طه يقرئهما إياها “، ويقول د. إبراهيم علي محمد أحمد في المرجع السابق: ” إن أداء الصلاة جماعة في مكان واحد باستمرار وانتظام ملفت للانتباه في هذه المرحلة السرية، وأداؤها بهذه الصورة قد يؤدي إلى كشف الجماعة المسلمة، ولذلك كان النبي وصحبه يؤدون الصلاة في شكل جماعات صغيرة متفرقة…” ، (ص 46) ، ومن الشواهد على ذلك قصة سعد السابق ذكرها، وقصة رسول الله مع علي وخديجة عندما خرجوا للصلاة فرآهم أبو طالب… إلى آخر القصة وإسنادها ضعيف، وكذلك ورد في قصة إسلام عمر كما أوردها البرهان الحلبي عنه قال: ” وكان رسول الله يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند رجل به قوة يكونا معه يصيبان من طعامه ” ، انظر (كتاب الدكتور السابق الذكر ، ص 43-47).
(3)- الحس الأمني والحذر لدى الصحابة:
ربّى النبي أصحابه تربية أمنية قوية نرى أمثلتها فيما سبق من تصرف علي وأبو ذر: فأبو ذر يتأني في السؤال عن رسول حتى لا يتعرض للأذى ، وكذلك فأبو ذر يتأخر في الإجابة عن سؤال علي رضى الله عنهم ثلاثة أيام مع أنه استضافه حتى يأخذ عليه العهد والميثاق أن يرشده ويكتم عليه، وكما مر معنا رأينا حذر علي في تحركه إلى دار الأرقم، وقد أورد د. إبراهيم علي محمد أحمد في كتابه السابق أمثلة كثيرة عن الحس الأمني لدى الصحابة مثل حذر أم جميل، والحس الأمني لدى نعيم بن عبدالله ، وكذلك لدى طبابه وسعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب، وكلها شواهد جيدة إلا أن أسانيدها ليست قوية. (انظر ص 48 – 57) .
يقول الشيخ محمد الصادق عرجون في كتابه( محمد رسول الله ، جـ 1 ، ص 596): “وبهذه المسالمة التي كانت أثراً من آثار الاستسرار بالدعوة تمكنت بها الدعوة في زمن استسراها من السير إلى القلوب والعقول فدلف إلى حظيرتها في دار استخفائها عدد غير قليل من فتيان قريش وذوي بيوتاتها والوافدين إلى مكة من غير أهلها.. ” .
ويقول الشيخ سليمان العودة في كتابه (الغرباء الأولون، ص 118): “وسرية الدعوة في أول أمرها كانت لحكمة ربانية لتحقيق التدرج – بالنسبة للداعي – بحيث لا يكلف بالصدع والإعلام من أول يوم ولو كلف بذلك لكان فيه من المشقة والعناء الشيء الكثير.
كما أن الداعية استطاع خلال هذه الفترة أن يستقطب عدداً من الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه، وخاصة الذين يتمكن من مسارتهم وعرض الدعوة عليهم، وهؤلاء كانوا عوناً له على توسيع نطاق الدعوة وتحقيق انتصارات ومكاسب جديدة لها في حدود السرية القائمة، ومن ثم فهم ومن آمن على أيديهم كانوا خير رده وسند للرسول عند جهره بالدعوة – بعد عون الله وحفظه- .
… وتلك السرية اقتضت صعوبة تحرك الداعية في دعوته فهو لا يخاطب إلا من يأمن شره ويثق به، وهذا يعني أن الدعوة تسير بخطوات بطيئة حذرة كما اقتضت صعوبة المواظبة على تلقي مطالب الدعوة من مصادرها وصعوبة تنفيذها إذ كان الداخل في هذا الدين ملزماً منذ البداية بالصلاة ودراسة ما تيسر من القرآن ولم يكن يستطيع أن يصلي بين ظهراني قومه ولا أن يقرأ القرآن فكان المسلمون يختفون في الشعاب والأودية إذا أرادوا الصلاة”.. أ.هـ
ثم يقول الشيخ سليمان في (الغرباء الأولون، ص 125): “وهذا يعني – بداهة أن الدعوة جاءت ومن خصائصها: الإعلان والصدع والبلاغ والبيان والإنذار وتحمل ما يترتب على ذلك من التكذيب والإيذاء والقتيل وغيره.
وإذا ظهرت هذه السمة والخصيصة – قضية عامة أصلية – بان دون خفاء أن استسرار النبي في دعوته أول الأمر إنما هو حال استثنائي لظروف وملابسات خاصة هي ظروف بداية الدعوة وضعفها وغربتها، وينبغي أن يُفهم ضمن هذا الإطار.
وإذا كان الكتمان والاستسرار سياسة مصحية في كثير من أمور الإسلام في الحرب والسلام فهو كذلك في موضوع الدعوة، لكن لابد أن نُدرك الفرق بين مسألة الدعوة وسائر المسائل الأخرى.
فالاستسرار بالدعوة كلها أمر مخالف للأصل الثابت المستقر فلا يجوز اللجوء إليه إلا عند الضرورة وأعنى بالدعوة بيان دين الله وشرعه وحكمه.
أما الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات فهو أمر مصلحي خاضع للنظر والاجتهاد البشري، إذ لا يترتب عليه كتمان للدين ولا سكوت عن حق ولا يتعلق به بيان ولا بلاغ.
ومن ذلك – مثلاً – معرفة عدد الأتباع المؤمنين بالدعوة فهذا أمر مصلحي لا يخل بقضية البلاغ والنذارة التي نزلت الكتب وبعثت الرُسل من أجلها فيمكن أن يظل سراً حتى كانت المصلحة في ذلك مع القيام بأمر الدعوة والتبليغ.
ولهذا فإن النبي حتى بعد أن صدع بدعوته وأنذر الناس وأعلن النبوة ظل يخفي أشياء كثيرة لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان كعدد اتباعه وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي ومن ذلك قصة الهجرة وهي في الصحيحين …. ”
ولعل ما يضاف إلى السرية التي عمل بها الرسول في الثلاث سنوات الأولى من البعثة وبعدها: الصبر والتحمل التي تميز بها المسلمون وأوصاهم بها رسول الله فقد تحملوا هذا الأذى الشديد والمضايقة والتعذيب والإهانة وقابلوه بالصفح الجميل والصبر الجميل، فعندما شكوا إلى النبي من الأمم السابقة ثم أخبرهم بما سيحصل لهم من الأمن مستقبلاً ونهاهم عن العجلة والحديث في البخاري عن خباب بن الأرت بل إن صحابة رسول الله عرضوا عليه أكثر من مرة أن يستعملوا القوة في العهد الملكي ومع ذلك نهاهم وحذرهم وأخبرهم أنهم لم يؤمروا بذلك، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما ورد في تفسير الطبري، جـ 5 ، ص 170 – 171 والمستدرك ، جـ 2 ، ص 307، وإسناد المستدرك على شرط مسلم على الأقل: “فقد أتى عبدالرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي وهو بمكة فقالوا يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة، قال: إني أُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم…. “.
وهناك مثال عثمان بن مظعون عندما رد حوار خاله ثم رد الكلام على لبيد بن ربيعة واشتد الأمر بينه وبين قريش حتى ضربهم وضربوه حتى خضرت عينه.. ولكن إسنادها ضعيف وقصة إسلام عمر وقد أعلن إسلامه ونازعهم وضربهم وضربوه حتى كلَّ وتعب فتجمعوا عليه لولا أن أجاره العاص بن وائل السهمي فانكشفوا عنه ثم تعليقه على ذلك بقوله: ” والله لو بلغنا ثلاثمائة لضاربناكم حتى نخرجكم من أقطارها ، والرواية صحيحة.
ومثال آخر ما جاء في حديث بيعة العقبة في (دلائل النبوة للبيهقي ، جـ 2 ، ص 448)، وابن هشام بإسناد جيد عن كعب بن مالك “… فقال العباس بن عبادة أخو بني سالم: يا رسول: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منىً غداً بأسيافنا فقال عليه : إنا لم نؤمر بذلك … ” .
وكذلك ما مر معنا في قصة سعد بن أبي وقاص عندما اكتشفه المشركون مع مجموعة من المسلمين يصلون في أحد الشعاب فسخروا منهم ونابذوهم فأخذ سعد لحى بعير فشج به أحد المشركين، وفي رواية أنه أبو جهل وقد مرّ تخريج قصة سعد في مغازي الأموي عن الوقاصي عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه ….
فالنفوس مشحونة والأنفة والعزة التي يشعر بها المسلمون تملأ قلوبهم ولكن رسول الله يُهديء هذه العواطف والمشاعر ويناهم عن الانقياد لها ، ولاشك أن ذلك يعتبر من التخطيط للدعوة بمنعها من الاصطدام بقوة المشركين بدون استعداد لذلك.
وللشيخ محمد الصادق عرجون رأي في سبب أو أسباب الهجرة إلى الحبشة له علاقة مما سبق فيقول في كتابه (محمد رسول الله ، جـ 3 ، ص 10-11): “ثانياً- أي من أسباب الهجرة إلى الحبشة – البعد عن المعوقات في طريق سير الرسالة وتبليغ دعوتها لأن المؤمنين المهاجرين كانوا في كثرتهم من شباب قريش خاصة وشباب قبائل العرب عامة، تملؤهم النخوة والحمية والأنفة من الرضا بالغبن والاستسلام للظلم، وربما نفذ صبرهم وضاقت أنفسهم بما يلقون من جور واستبداد بهم، فتدفعهم طبيعتهم البشرية وحميتهم العربية إلى مقاومة الظلم ورد الاعتداد كما وقع في قصة سعد….، فلو تكرر ذلك – وقد تكرر- وفي المسلمين كثرة من أمثال سعد حميةً وأنفةً، لكان فيه شغل شاغل لرسول الله ولأصحابه عن السير بالدعوة في طريق التبليغ بعيداً عن المعوقات ….” .
وقد لخص الشيخ منير الغضبان مسيرة الدعوة في مكة وأشار فيها إلى شيء مما سبق في كتاب (فقه السيرة ” ص 144 – 148): “1- لقد ابتدأت الدعوة سراً واستمرت ثلاث سنين انضم إليها في هذه المرحلة ما يقرب من ستين ما بين رجل وامرأة، وكانت الدعوة تتم عن طريق الاصطفاء والتخير، وبذلك تكونت القاعدة الأساسية للدعوة وتمت تربيتها في دار الأرقم وفي شعاب مكة حيث يخرجون للصلاة والوحي يتنزل عليه من دون أن تكون هناك مواجهة بينهم وبين الكفار اللهم إلا ما ذُكر عن سعد عندما طلع عليهم بعض الكفار وهم يصلون ( فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فُضرب سعد بن أبي وقاص يومئذٍ بلحي بعير فشجه فكان أول دم أهرق في الإسلام ).
2- وحين نراجع هذا الرصيد من المؤمنين في هذه المرحلة نلاحظ أنهم العمود الفقري للإسلام.
3- وما أعلن القوم عن وجودهم إلا بعد الأمر بالصَّدع بالدعوة حيث قام أبوبكر خطيباً بالمشركين ( ) …. ولم يصرف تاريخ هذه العُصبة المؤقتة التي أصبحت مستعصية على الإبادة من انحراف أو تزلزل أو وهن إلا ما ذكر عن عبيدالله بن حجش ( ) .
4- وكان الانتقال إلى مرحلة الجهر بالدعوة بعد أن أصبحت القاعدة الصلبة مستعصية على الإبادة ولها من الصلابة والقوة والجذور في الأعماق ما يجعلها أقوى من الإفناء، ولو كان الصدام قد ابتدأ من اللحظات الأولى وفي المرحلة السرية لأوشك أن يقضي على كل قواعد الدعوة.
5- ومع ذلك فلم يكن الانتقال مفاجئاً بأن تكون الدعوة إلى كل العرب، لقد كانت المرحلة الثانية هي دعوة الأقربين ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ (الشعراء:214) (وهذا غير مسلم فإنه كان يدعو الأقربين والأبعدين ولكن بأسلوب خاص مناسب للمرحلة كما مر معنا).
6-
7- والذي نشأ عن تعميم الدعوة لقريش كلها أن انضم إلى الدعوة روافد جديدة من بطون قريش التي بلغت اثنا عشر بطناً رفعت رصيد الدعوة إلى قرابة الثلاثمائة بين رجل وامرأة.
8- ويوم توجه رسول الله إلى العرب يدعوهم إلى الإسلام، كان هذا الرصيد الكبير من قريش والأفراد المبثوثين من القبائل العربية الأخرى التي كانت درعاً واقياً للدعوة وقادراً على المواجهة مهما بلغت تكاليفها، وإن كانت المواجهة المسلحة لم تتم مع قريش إلا بعد انضمام الرصيد الأكبر من الأنصار والذي واجه العرب قاطبة يوم الأحزاب”. (أ.هـ باختصار).
3- البحث عن قاعدة أخرى للدعوة غير مكة :
كان من مظاهر التخطيط والتنظيم للدعوة في العهد المكي هي محاولة الرسول البحث عن قاعدة أخرى للدعوة غير مكة، واتضح ذلك في توجيهه لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ثم ذهابه إلى الطائف ، وكذلك في عرضه لنفسه على القبائل العربية، ثم إذنه بالهجرة إلى المدينة، ثم هجرته إليها، وفي كل واحدة من هذه الأمور الثلاثة مظهر من مظاهر الترتيب والتنظيم التي تميزت بها وعدة محمد ، فلنأخذ هذه الأحداث بالترتيب :
أ- الهجرة إلى الحبشة: سبقت الإشارة إلى الهجرة إلى الحبشة عند الحديث عن احتواء الرسول لحماس أصحابه وشعورهم بالعزة والأنفة ورفضهم للظلم والعدوان، وذلك كسبب من أسباب الهجرة، ولكن السبب الرئيس لهذه الهجرة هو البحث عن قاعدة أخرى للدعوة غير مكة بعيداً عن ظلم مشركي قريش، ولعل قوله في ذلك: “فإن فيها ملكاً لا يُظلم الناس عنده” دليل على ذلك، وكذلك فإن بقاء أكثرية المهاجرين إلى الحبشة فيها بعد الهجرة إلى المدينة يُوحي بذلك فهم لم يرجعوا إلى المدينة إلا بعد خيبر في السنة السابعة كما هو ثابت في الصحاح والمغازي.
ويقول سيد قطب – رحمه الله تعالى– في هذه المناسبة في (الظلال، جـ ص 29) ” ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب لتكون قاعدة جديدة للدعوة الجديدة عدة اتجاهات… سبقها الاتجاه إلى الحبشة حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذاً أقل الناس جاهاً وقوةً ومنعةً من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبياتهم – في بيئة قبلية– ما يعصمهم من الأذى ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين، منهم جعفر ابن أبي طالب، وأبوه وفتيان بني هاشم هم الذين كانوا يحمون ، ومنهم الزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة المخزومي، وعثمان بن عفان الأموي وغيرهم…. وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة، ما كان الأذى لينالهن أبداً، وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم فراراً من الجاهلية تاركين وراءهم كل وشائج القربى في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزاً عنيفاً، وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل حبيبة بن أبي سفيان زعيم الجاهلية وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الصحيحة وصاحبها، ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة وبخاصة عندما نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة كما ورد في روايات حسنة.
ولعل من المناسب أن نعلق على السبب الذي ذكره سيد للهجرة إلى الحبشة وهو محاولة استثارة قريش واحداث هزة في نفوسها لترك هؤلاء لديارهم من أجل عقيدتهم- أن نعلق على ذلك بذكر الحوار الذي دار بين عمر – وهو على شِركه – وبين إحدى نساء المسلمين من أقاربه وهي تستعد للهجرة حيث أظهر شيئاً من التأثر والرقة طمعت معه تلك المرأة أن يسلم عمر… إلى آخر القصة . وهي حسنة الإسناد.
ب. ذهابه إلى الطائف : وأصل القصة في صحيح البخاري وقد بقى في الطائف يعرض نفسه على كبار رجال ثقيف فلم يجد منهم إلا الصد والأذى والاستهزاء وتسليط السفهاء عليه لرميه بالحجارة حتى أدموا قدميه ولم يستطع أن يرجع إلى مكة إلا بجوار المطعم بن عدي، وهذه محاولة واضحة للبحث عن قاعدة جديدة للدعوة.
ج- عرضه لنفسه على القبائل : لم يبق رسول الله حبيس مجال محدد هو قريش فبذل جهداً كبيراً طوال فترة بقائه في مكة به بعد إعلان الدعوة وذلك لمدة عشر سنين كاملة حتى وفقه الله إلى دعوة الأنصار أهل المدينة فبدأ بذلك تاريخ جديد للدعوة.
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى: “المقصود أن رسول الله استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج… يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي وغني وفقير… جميع الخلق عنده في ذلك سواء… ” (البداية والنهاية ، جـ 2، ص 45) . وأخرج البيهقي في الدلائل عن موسى بن عقبة قصة ذهابه إلى الطائف وذكر فيه: “وكان لا يحقر أحداث أن يبلغه رسالة ربه” وذلك لما عرض على عداس مولى عتبة وشيبة الإسلام ( جـ 2 ، ص 416).
وروى أبو نعيم في الدلائل عن علي بإسناد فيه الواقدي: ” لقد كان رسول الله يخرج في المواسم فيدعو القبائل ما أحد من الناس يستجيب له ويقبل منه دعاءه فقد كان يأتي القبائل بمجنة وعكاظ وبمنى حتى يستقبل القبائل يعود إليهم سنة بعد سنة حتى إن القبائل منهم من قال : “ما آن لك أن تيأس من طول ما يعرض عليهم نفسه “.
وفي حديث جابر المشهور الصحيح وفي بيعة العقبة “مكث رسول الله بمكة عشر سنين يعرض نفسه على القبائل يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: “من يأويني ؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ … “، (سند أحمد ، جـ 3 ، ص 322 -323) وإسناده حسن ومستدرك الحاكم( جـ 2 ، ص 625-625) وصححه وأقره الذهبي وقال ابن كثير في السيرة هو على شرط مسلم.
وفي حديث ربيعة بن عباد الديلي: “رأيت رسول الله بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل…. ” (مسند أحمد 3/492) بإسنادين حسنين يصلان سوياً إلى درجة الصحيح.
وما خاطب به رسول الله في الموقف: ” هل من رجل يحملني إلى قوله فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل …. ” (مسند أحمد، جـ 3 ، ص 390) بإسناد صحيح.
وهناك الحديث الطويل في عرضه لنفسه على القبائل بمشاركة أبي بكر وعلي رضى الله عنهما وإسناده لا بأس به (الدلائل للبيهقي ، جـ 2 ، ص 422) ، ويه تصوير واضح لعرضه نفسه على القبائل في موسم واحد بل في يوم واحد.
أما عرضه الدعوة على سويد بن الصامت فهي من الدلائل للبيهقي ( جـ ص ، ص 419) وفي سيرة ابن هشام بإسناد حسن.
وأما قصة إياس بن معاذ الألوسي ودخوله في الإسلام بعد عرض الدعوة عليه من رسول الله فهي في ابن هشام بإسناد حسن وفي مسند أحمد وفي البيهقي( جـ 2 ، ص 420).
كل هذه الأخبار تؤكد الجهد العظيم الذي بذله رسول الله في البحث عن قاعدة أخرى غير مكة للدعوة الإسلامية، وقد انتهت هذه الجهود إلى إسلام الأنصار وتكون القاعدة القوية للدعوة الإسلامية ثم للدولة الإسلامية.
4- بيعة العقبة الأولى والثانية والثالثة: نتيجة لكل الجهود السابقة التي بذلها فيما سبق ذكره ترتب على ذلك إسلام عدد من الأنصار ثم تزايدهم إلى اثني عشر في السنة التي بعدها ثم وصولهم في البيعة الكبرى إلى أكثر من سبعين رجلاً، وهذا كله نتيجة الصبر والتحمل ثم التخطيط الدقيق والإصرار على الوصول إلى الهدف وذلك كلمه بعد توفيق الله وتدبيره سبحانه وتعالى، وإن استعرضنا الأحداث بيعة العقبة بمراحلها يدل دلالة قاطعة على هذا التخطيط، سبق ذكر قصة سويد بن الصامت بن كامل وإياس بن معاذ، ولكن البداية الحقيقية هي في عرض الدعوة على مجموعة من الخزرج وكان عددهم ستة أشخاص فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فأسلموا ” (ابن هشام بإسناد حسن) ويعد بعض الباحثين أن هذه هي بيعة العقبة الأولى مثل ابن عبدالبر وابن سيد الناس والصالحي ، وفي السيرة الشامية وبعضهم لا يعدها بيعة على النصرة فلا يعدها البيعة الأولى، وفي العام التالي وفد على رسول الله في موسم الحج اثنا عشر رجلاً عشرة من الخزرج واثنان من الأوس مما يدل على نشاط هؤلاء الستة في دعوة إخوانهم من الخزرج وبعض الأوس فبايعوا رسول الله البيعة الأولى والبيعة الثانية وهي بيعة النساء ورواها عبادة بن الصامت وكان مشاركاً فيها وهي في البخاري فتح الباري (1/66)، وفي (مسلم 3/1333) ولما تمت بيعة العقبة الثانية ورجعوا إلى المدينة أرسل معهم مصعب بن عمير للدعوة إلى الإسلام وإن كان إسناد هذه القصة ليس بالقوي فإن القصة مشهورة في السير لاسيما دوره في إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فلذلك كان عدد المسلمين من الأنصار في العام القابل كبيراً بحيث أن الذين ذهبوا لمبايعة النبي بيعة العقبة وهي الثانية أو الثالثة كانوا يزيدون على السبعين رجلاً .
وإن التنظيم في بيعة العقبة يتجلى في عدة أمور:
أ- استخفاؤهم عن قومهم مع أنهم في رفقة واحدة للحج يبلغ الجميع فيها أكثر من ثلاثمائة رجل والمسلمون منهم فوق السبعين ومع ذلك لم يتسرب موعدهم مع رسول الله في العقبة، يقول كعب بن مالك أحد رواة قصة البيعة: ” وواعدنا رسول الله العقبة من أوسط أيام التشريق وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا…. ” وروايته صحيحة، ويقول جابر بن عبدالله أحد المشاركين: ” فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا … ” وإسناده صحيح.
ب- التسلسل خفية ولم يعلم بهم أصحابهم من المشركين: يقول كعب ابن مالك في الرواية السابقة: ” فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله بمنى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا حتى اجتمعنا بالعقبة …. “، وقد أخرجه البيهقي بإسناد جيد ، جـ 2 ، من الدلائل ، ص 448 . ويؤكده قول جابر السابق: ” فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا … ” وهو واضح في تنظيم عملية الخروج بهدوء وانفراد.
ج. وأورد المقريزي رواية لم يبين إسنادها عن وضع حراسة على فم الشعب من الجهتين أبوبكر من جهة وعلي من جهة .
د. بلغ من سرية هذه الحركة أن أغلب المهاجرين لم يطلعوا عليها ولم يشاركوا فيها فليس لهم فيها ذكر – إلا حضور العباس وهو على شركه للتوثق لابن أخيه.
ح. في هذه البيعة تم تنقيب النقباء، وهم الكفلاء على قومهم وهم اثنا عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، ولا شك أن تنقيب النقباء من أبرز العمليات التنظيمية السياسية إعداداً وتمهيداً لقيام الدولة الإسلامية وإسناد قصة النقباء صحيح.
و. تسرب خبر البيعة بدون تقصير من المسلمين ولا خلل في التنظيم، بل إن الشيطان صرخ بأعلى صوته: يا أهل مكة محمد والصباة في العقبة، ولم تصل قريش إلى خبر يقين ولكنه شك فأتته صباحاً إلى معسكر الأوس والخزرج في منى، ودار بينهم حوار وتهديد حول هذه القضية ونفاها المشركون لأنهم لا يعلمون بها، واستمر المسلمون على كتمانهم ولم يعلقوا على الأمر بل نظر بعضهم إلى بعض فاقتنعت قريش وذهبت دون الوصول إلى نتيجة، وحصل في ذلك الوقت تصرف من أحد شباب الأنصار يدل على براعة وذكاء وهو راوي القصة كعب بن مالك قال: “ثم قام القوم – أي وفد قريش – وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة الخزرمي – وأسلم بعد ذلك – وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال : فسمعها الحارث ، فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلىّ فقال: والله لتنتعلنها. قال : يقول أبو جابر : أحفظت والله الفتي فاردد عليه نعليه قال قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح لئن صدق الفال لأسلبنه” وهي بإسناد القصة الصحيح.
ز. إن عرض العباس بن عباده بن نفلة على رسول الله : “لئن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا وقوله : إننا لم نؤمر بالحرب ” دليل على أن الرسول لا يعمل إلى بأمر الله وأنه يرتب أموره فللحرب وقتها ولم يأن بعد.
ح. وأخيراً فإن في خبر بيعة العقبة أمر عجيب من علم رسول الله بأخبار المدينة مع بعده عنها، مما يدل على أن المسلمين وعلى رأسهم مصعب وابن أم مكتوم وغيرهم من مسلمي الأنصار يخبرونه بأدق أخبار المدينة، ومنها خبر أحد المشركين الذي كان يسيء معاملة زوجته وهي مسلمه فأمره بالبر بها وأخبره بما يعمل معها، وهذا منتهى الدقة من رسول الله ومعرفته بشؤون دعوته وعدم ترك الأمور للصدفة فلا دعوة إلا بترتيب .
5- الجدال الفكري والعقائد بين الرسول وبين الكفار: اعتمد رسول الله أسلوب الجدل العلمي المقنع مع كفار قريش، ثم مع يهود المدينة، وكان جدلاً بالحسنى والإيضاح والبيان.
ولابد من الإشارة هنا إلى عدم تدخل النبي والمسلمون في حماية سعد بن عبادة حين وقع في الأسر بعد انتشار الخبر، وهذا دليل على ضبط النفس والتخطيط الجيد وعلى منع إراقة الدماء ، في وقت غير مناسب وكذلك لمنع تأكيد خبر البيعة عند قريش .
وهذا الأسلوب من أساليب الدعوة التي انتهجها رسول الله وهذا دليل تنظيم وترتيب وتفكير في مصلحة الدعوة، وسلوك أفضل السبل لإيصال الحق إلى الناس، وبالنظر في أخبار هذا الجدل أنه يبدأ من الكفار وليس من الرسول ولكنه أقره ورد عليهم وأعطاهم القرآن الإرشادات في ذلك فدل على أنه أسلوب مشرع إذا ضبط بضوابطه:
أ- في العهد الأموي حصلت عدة محاورات بينه وبين الكفار بعضها أسانيده جيدة والبعض الأخر ضعيف الأسانيد، فلما قال لهم الرسول “يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير” وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً ؟ ” أي أن عيسى على كلامك ليس فيه خير، فرد الله عليهم بقوله : ” ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾،﴿ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الزخرف57-59) وإسناده لا يقل عن الحسن ، انظر (صحيح السيرة لأكرم العمري ، جـ1، ص 163) .
ومن المجادلات قول المشركين في مكة لليهود: اعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل ، فقالوا سلوه عن الروح: فنزلت:﴿ وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا ﴾( الإسراء:85)، قالوا : نحن لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتى خيراً كثيراً . فنزلت الآية: ” قُل لَو كانَ البَحرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَو جِئنا بِمِثلِهِ مَدَدًا ﴾ (الكهف:109)، وإسناده صحيح، انظر (صحيح السيرة للعمر ، جـ 1 ، ص 164) .
وكلك اتهامهم للرسول أنه يأخذ عن بعض أهل الكتاب فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّهُم يَقولونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلحِدونَ إِلَيهِ أَعجَمِيٌّ وَهـذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ﴾ (النحل:103)، وإسناده صحيح ، انظر( صحيح السيرة ، جـ 1 ، ص 165).
كذلك جادل المشركون في نزول القرآن منجهاً قائلين: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (الفرقان:32)، وقد بين الله عِلَّة ذلك بقوله: كذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (الفرقان:32) والاسناد صحيح، انظر (صحيح السيرة ج1، ص166). وجادلوه في القدر فنزلت الآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر:49) (صحيح مسلم ج4، ص2046).
وجادل المشركون أيضاً في عقيدة البعث وأكثروا فيها الجدال حتى جاء العاص بن وائل السهمي بعظم بالٍ إلى رسول الله ، فتساءل ساخراً لمن كان الله يبعث هذا العظم البالي، فقال رسول الله “نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك جهنم”، فنزلت الآيات: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ… (يس:76-77) إلى آخر السورة وهو صحيح، (صحيح السيرة ج1، ص168).
وجدالهم مع بعضهم حول إحدى صفات الله سبحانه وهي السمع فنزل قوله تعالى وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (فصلت:22)، وهي في البخاري ومسلم.
وجدال لهم مع المشركين في قضية انتصار الفرس وتوقهم لانتصار الروم والقصة طويلة وإسنادها جيد (صحيح السيرة ج1، ص168-169).
ولا ننسى هنا جدال جعفر والمسلمين في الحبشة مع النجاشي والقسس وهي قصة طويلة وإسنادها صحيح.
وكذلك جدالهم لمشركي العرب وقريش في عرضه لنفسه على القبائل وقد مر معنا وهو نموذج للحجة والإقناع، ومر معنا جداله مع سويد بن الصامت.
أما جداله مع اليهود في المدينة بعد الهجرة فأمثلته كثيرة وأغلب أسانيدها صحيحة ويرجع في ذلك لكتاب: حوار الرسول مع اليهود د. محسن بن محمد بن عبد الناظر.
6- إنشاء دور الدعوة في العهد المكي وبداية المدني:
أشار الدكتور أحمد فؤاد سيد في كتابه الشامل: تاريخ الدعوة الإسلامية ص52 فما بعد إلى إنشاء دور الدعوة كدار الأرقم وسبق الحديث عنها، ودار جعفر بن أبي طالب بالحبشة وسبقت الإشارة إليها، ودار أسعد بن زرارة بالمدينة، ويتضح من خلال البحث في أسانيد إنشاء دور الدعوة أن دار الأرقم إسنادها جيد، وكذلك دار جعفر إسنادها جيد، أما دار أسعد بن زرارة فهي مشهورة وكان إسنادها مرسل صحيح.
7- الهجرة:
الهجرة ذلك الحدث العظيم الذي نقل الدعوة الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة، وهي مرحلة الدولة الإسلامية فلا عجب أن يؤرخ المسلمين بهذا الحدث ويجعلوه بداية تاريخهم.
ولقد ظهرت في الهجرة أساليب الدقة والتنظيم في دعوة الرسول بأجلى مظاهرها، فالهجرة من أولها إلى آخرها حركة مرتبة منظمة، بَذَلَ فيها الرسول جُهده البشري الأوفى والأتم ثم توكل على ربه الذي حماه في مواقف لم يكن للجهد البشري فيها مجال:
أ- الإعداد: ويشمل اختيار المكان بوحي من الله، والرفيق (أبو بكر)، والراحلتان، والدليل (عبدالله بن أويقط)، وعافي الأثر بغنمه (عامر بن فهيرة)، وناقل الأخبار أولاً بأول (عبدالله بن أبي بكر)، وناقل الطعام (أسماء بنت أبي بكر)، والراعي الذي يضوي عليهم ليشربوا من ألبانها وهو (عامر بن فهيرة).
ب- الخطة: كتمان الأمر فلم يعلم به إلَّا أبو بكر وآله وعلي بن أبي طالب والدليل والرفيق الآخر عامر بن فهيرة ولذلك لم يتسرب الخبر مطلقاً إلا بعد خروجه، وإن كانت قريش تتخوف من هجرة الرسول بعد هجرة الصحابة ، الخروج في نحر الظهيرة من بيت أبي بكر وليس من بيت رسول الله ، وإن كانت هناك رواية عن الخروج ليلاً وكلاهما وقت آمن فالليل يستر بظلامه، والظهيرة تمنع الناس من الحركة لا سيما في مكة في آخر الصيف، ويُقال أن الهجرة كانت في سبتمبر وهو شهر حار لا سيما في مكة. الاتجاه إلى الجنوب لإرباك المشركين لأنهم سيبحثون في اتجاه المدينة، نوم عليٌّ في فراشه ليلة خروجه وإسناده حسن، اختيار المخبأ وهو غار ثور والبقاء فيه ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب، اختيار طريق الساحل غرب مكة ثم دخول الدليل طريقاً غير معروف زيادة في التعمية على المطاردين، السير في أغلب الأوقات ليلاً وفيه قول الصديق في حديث البراء بن عازب وهو صحيح “أدلجناه من مكة ليلاً فأحيينا ليلتاه ويومنا حتى أظهرنا” (السيرة الذهبي ص324).
والتخفف من الزاد حتى لا يثقل الرواحل ويعوق الحركة، ويدل عليه حديث أم معبد وهو حسن، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه لما خرج بعدها من إلى الغار “مر على راعٍ فاستسقى من لبن غنمه… ثم قال: أتبعك، قال: لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا فإذا بلغك ذلك فاخرج …”، وعدم السماح للراعي باتباعه مع أنه مسلم هو تقليل الركب قدر الإمكان، ولعله رأى أنه لا يصلح أن يشارك في هذه المرحلة…، وفي رواية أخرى في البزار بإسناد جيد أن هذا الراعي هو أبو معبد، مما يدل على أن لقاءه به كان بعد الخروج من الغار، لأن مقابلة الراعي أثناء الذهاب إلى الغار أمر قد يكشف اتجاه الرسول ، ثم إنه في ذهابه إلى الغار لم يكن بحاجة إلى لبن الراعي لوجود الطعام قريباً منه ولقرب الغار من مكة نفسها، ثم في تمويه أبي بكر على من سأله عن رسول الله قال: “هذا هاد يهديني الطريق” ويبدو أن ذلك في آخر الطريق والقرب من المدينة.
ولعلنا نختم الحديث عن الهجرة والتخطيط لها وهو طويل جداً عمدنا إلى اختصاره برواية إسنادها ضعيف ولكن لا بأس من إيرادها لأنها متفقة مع الخط العام، فقد ذكر الصالحي في(سبل الهدى والرشاد ،ج3 ص234) تعليلاً بعد تسورهم للبيت النبوي تلك الليلة ونقله عن بعض أهل السير “فذكر في الخبر أنهم هموا بالولوج عليه فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أننا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا”، فلو صح الخبر لدخل في التخطيط السابق ذكره.
وهنا يحسن الحديث عن هجرة الصحابة قبل رسول الله فقد أذن لهم بذلك بعد بيعة العقبة الكبرى، فكيف خرجوا؟ يروي موسى بن عُقبة وهو من كبار أهل السير عن الزهري قال: “أمر رسول الله أصحابه بالهجرة فخرجوا رسلاً رسلاً ” أي وحداناً أو بأعداد قليلة حتى لا يلفتوا نظر المشركين إلى ذلك، ويؤكد هذا الخبر المرسل حديث هجرة عمر عند ابن هشام (ج2 ص219) بإسناد جيد قال رضي الله عنه: “لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا: الميعاد بيننا التناضب أضاة بني غفار فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس، فأصبحت عندها أنا وعياش وحبس هشام وفُتن” فهناك عدد قليل “ثلاثة أشخاص” واللقاء بمكان محدد ووقت محدد للوصول إلى المكان فمن لم يصل إليه في الوقت المحدد فلا ينتظر لأنه حبس من قبل قريش.
ثانياً: التخطيط في العهد المدني:
أطلنا الحديث نسبياً عن التخطيط في العهد المكي، لأنه بحاجة إلى إيضاح وإلى عرض جيد يوضح هذه المسألة التي طال البحث فيها، ولكن التخطيط في العهد المدني أمر آخر، فهناك دولة قائمة لها نظامها ولها ترتيباتها، فالأمر لا يحتاج إلى كبير عناء لاكتشاف التخطيط في العهد المدني، ولذلك سنكتفي باستعراض بعض الأنظمة النبوية في المدينة بشكل مختصر حتى لا يطول البحث:-
1- بناء المساجد:
كان من أول مظاهر تنظيم الدعوة في المدينة بعد الهجرة النبوية بناء المساجد وعلى رأسها مسجد قباء ومسجد الرسول ، وكان هذا الأمر مما سارع إليه رسول الله ولم يتأخر بالقيام به، وذلك لما للمسجد من أهمية روحية وعبادية وتنظيمية، ففيه تُقَام الصلوات، وفيه يُدرس القرآن والعلم، وفيه يَأوي الأضياف ممن لا أهل لهم (أهل الصفة)، وفيه تُستقبل الوفود، وفيه تُدرس القضايا وتُقرر القرارات في هذا المجتمع الوليد الجديد، وقد عرض الدكتور أحمد فؤاد سيد في كتابه تاريخ الدعوة الإسلامية عرضاً شاملاً للمساجد في زمن النبي في المدينة وخارجها (ص113-183).
2- التنظيم السياسي:
هاجر النبي والمسلمون إلى المدينة وفيها عدد كبير من المشركين من الأوس والخزرج الذين لم يسلموا وقبائل كثيرة من اليهود، والنبي لا يمكن أن يحكم المدينة ويتجاهل هذه الأعداد ممن ليسوا على الإسلام فوضع لذلك وثيقة سياسية هي (صحيفة العهد) وفيها عدد من المواد والفقرات التي تُنظم العلاقات بين هذه القبائل المتنافرة والأديان المختلفة، وقد اختلف الباحثون كثيراً في اسناد هذه الصحيفة ولكنها متعددة المخارج مما يوصلها إلى درجة الحسن لغيره كما قال بعض الباحثين، والفقرات كثيرة منها مثيل في كتاب الصحاح والسنن مما يقويها ويشهد لها، انظر في ذلك (كتاب السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ص307-318)، … كذلك أكرم العمري وأيد وصولها لدرجة الحسن، وكذلك محمد السيد الوكيل في كتابه المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى (ص31-44).
3- المؤاخاة:
وَفَدَ المهاجرون على الأنصار وقد تركوا خلفهم بيوتهم وأموالهم، وقد استعد الانصار لمقاسمة المهاجرين أموالهم ومزارعهم وبيوتهم وأراضيهم، بل إن أحدهم عرض على عبدالرحمن بن عوف أن يُطلِق إحدى زوجتيه ليتزوجها، ومع هذا فلم يرضى المهاجرين أن يبقوا عالة على إخوانهم من الأنصار، ولم يرض رسول الله ذلك فوضع نظاماً اجتماعياً اقتصادياً يُنظم العلاقة بين المهاجرين والأنصار، وهو نظام المؤاخاة التي كانت تصل إلى درجة التوارث بين الأخوين إلى نسخ التوارث بآية آخر سورة الأنفال، وبقيت معاني الإخاء الأخرى مستمرة، وأسانيد التآخي أو المؤاخاة صحيحة في مجملها وإن اختلفت الأعداد ما بين التسعين إلى المائة إلى شمول المؤاخاة كل المهاجرين وما يُقابلهم من الأنصار، أما أسانيد المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم فهي ضعيفة ما عدا حالات قليلة جداً يُعارضها الإخاء بين الأسماء الواردة فيها وبين الأنصار، ولا شك أن السعي لإيجاد الروابط القوية المنظمة بين أبناء المجتمع الواحد يُعدُّ من العمل الدقيق المنظم الذي سلكه رسول الله في دعوته ودولته.
5- التنظيم العسكري:
دعوة رسول الله للجهاد والقتال لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، فلما أسست الدولة ورتبت أمورها ونظمت أذن الله لرسوله وللمسلمين بالجهاد، فما هو سلوك رسول الله في الجهاد؟ هل كان جهاداً ارتجالياً قائماً على الصدفة؟ أم كان جهاداً منظماً مرتباً مدروساً وضعت فيه الأمور في نصابها؟
لقد ألفت الكُتب المتخصصة بحروب رسول الله فأظهرت نتائج البحث والتدقيق أنها حروب بذلت فيها جميع أسباب الجهد البشري المستطاع وبعد ذلك وقبله توفيق الله ونصره، وفيما يلي عُجالة موجزة عن مظاهر التنظيم والترتيب في حروب النبي وغزواته:-
أ- الكتمان:
كان من قواعد الحرب عند رسول الله أنه كان (لا يغزو بغزوة إلا ورى بغيرها) فكان يُعلن اتجاهاً ويذهب إلى غيره، بل كان يتجه إلى مكان معين وينشر الخبر بذلك ويسلط الطريق المؤدي إلى ذلك المكان ثم يغير اتجاهه إلى الهدف المحدد، ويُستثنى من ذلك غزوة تبوك وذلك لبعد المكان وقوة العدو فيأخذ الناس أهبتهم بذلك، وكان يضع الحراسات لمنع تسلل الجواسيس إلى العدد المحدد وإبلاغه بأي خبر، ولعل من أبرز الأمثلة على تطبيق هذا المبدأ (غزوة الفتح) فقد استطاع التحرك بجيشه ليصل إلى عشرة آلاف مقاتل ومع ذلك لم يستطع أهل مكة أن يعرفوا عن هذا التحرك أي خبر حتى دخل حدود مكة فجأةً، والأمثلة على ذلك كثيرة ويراجع في ذلك كتاب: دروس في الكتمان من الرسول القائد لمحمود شيت خطاب.
ب- الاستطلاع:
اهتم عليه الصلاة والسلام بمعرفة أخبار العدو معرفة دقيقة، فكان يرسل عيونه لجمع الأخبار كما حصل في بدر، والخبر في مسلم، وأحياناً يكون له من يرصد أخبار العدو في عقر داره كما في مكة (العباس بن عبدالمطلب)، وأرسل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى جهة الشام للبحث عن أخبار العير قبل بدر، وبعث أبو تميم الأسلمي غلامه مسعود بن هنيدة من العَرْج قرب الطائف إلى المدينة يُخبر المسلمين بقدوم المشركين إليه في أُحد (الطبقات لابن سعد ج4 ص310) بلا إسناد، وأرسل حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق لمعرفة أخبار العدد والقصة مشهورة، وأرسل عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي إلى هوازن ليأتيه بأخبارهم ففعل (الطبقات لابن سعد ص150 برواية جمعية “قالو”)، وأرسل أمية بن خويلد عيناً على قريش، وكذلك بِشر بن سفيان العتكي، وجبلة بن عامر البلوي كان عيناً لرسول الله يوم الأحزاب، وأنس بن أبي مرشد العتوي كان عيناً له بأوطاس. (انظر التراتيب الإدارية للكستاني ج1 ص361-363)، (وانظر (المنهج الحركي للقضبان ج1 ص396-400).
ج- الحرب النفسية:
وعبر عنها الرواة (بالمخذل) وفيها قول رسول الله (الحرب خدعة) وهي في البخاري ومسلم عن أبي هريرة وفي ذلك قصة نعيم بن مسعود المشهورة في تخذيله للأحزاب وتفريقه لصفوفهم وإن كانت ضعيفة الإسناد، ومن المعلوم أن من خصائص النبي (نصرت بالرعب من مسيرة شهر).
د- وضع الخطط العسكرية:
ما كان رسول الله يخوض معركة إلا وقد وضع خطتها ورتب جيشه على أساسها، واقرأ إن شئت في غزوة بدر والأحزاب والفتح وأُحد وغيرها من المعارك الكبرى والصغرى فستجد مصداق ذلك وهو أمر أشهد من أن يُذكر.
ه- ترتيب الجيش:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتب جيشه أثناء السير وقبل المعركة، فيضع ميمنة وميسرة وقلب ومقدمة وساقة وصفوف وكراديس ويلزمهم بلزوم أماكنهم المحددة لهم، ولعل في قصة الرماة في غزوة أحد شاهداً واضحاً على ذلك.
و- استخدام الوسائل المتوفرة والتجديد في وسائل الحرب:
استخدام رسول الله في حروبه جميع أنواع السلاح المتوفر في زمانه: السيف والرمح والسهم الحربة والخيل والمشاة والمجانيق والدبابات (في حصار الطائف) وأشار عليه سلمان الفارسي باستخدام الخندق في غزوة الأحزاب ففعل ذلك ولم يترد فيه، ولم تكن العرب تستخدم هذا الأسلوب في الحروب، ولذلك كانت المفاجأة تامة للعدو لما وصل إلى هذا الخندق وكان – بعد الله سبحانه – سبباً في رد كيد العدو، بل إنه أرسل اثنين من الصحابة: عروة بن مسعود وغيلان بن سلمة إلى جرش يتعلمان صناعة المجانيق والدبابات.
ز- الحراسة : كان يضع حرساً لعسكره ويخلف الحرس والأمراء في المدينة لضبطها في حال غيابه، والأمثلة على ذلك كثيرة راجع (التراتيب الإدارية للكتاني ، جـ 1 ، ص 358 – 359).
ج- الدليل وممهد الطريق: كان عليه السلام يستخدم الدليل أحياناً في غزواته(التراتيب جـ 1 ، ص 348) ، وكان يضع الأعلام ويبني المساجد في طريقه لتكون دليلاً فيما له ولغير (التراتيب ، جـ 1 ، ص 349) ، وكان يبعث من يسهل له الطريق إذا كان يحتاج إلى ذلك (التراتيب، جـ 1 ، ص 350).
ط- الاستعراض: وهو على نوعين ، وكلاهما فعله ، فهناك استعراض الجيش قبل المسير لمنع من لم يبلغ السن المحددة لذلك وهي الخامسة عشر، وقد استثنى من هذه القاعدة بعض الأشخاص بسبب قدراتهم البدنية، وقد ورد في هذه الاستعراضات أكثر من عشرين صحابياً وأجاز واحداً أو اثنين (انظر التراتيب، جـ1، ص231-233) ، والنوع الآخر هو الاستعراض لإظهار القوة للعدو كما حصل أمام أبي سفيان في مكة.
ي- تعريف العرفاء: وهم غير النقباء، فإن النقباء عددهم محدود ومسؤوليتهم أكبر، ويبدو أنها سياسية عامة، بينما العرفاء أكثر عدداً ومسئوليتهم محصورة في عدد أقل ومسؤوليتهم في قضايا سرعة الحضور عند الطلب في الاستنفار للقتال، أو المتابعة الجنائية عند حصول خطأ أو جناية، وكذلك لأخذ الرأي المباشر من الأفراد في أي أمر من الأمور، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصة رد سبي هوازن وهي في الصحيح فلما شاور الناس في رد السبي دون الأموال قالوا: “رضينا بذلك، فقال الرسول إننا لا ندري من أذن منك بذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمنهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي فاخبروه برضاهم”. ومما يدل على تخصصهم الجنائي والعسكري أنه احتاج إليهم في قضية نتجت عن معركة حنين والغنائم من نصيب المقاتلين فقط، ولم يشاور النقباء في هذا الأمر لأن شأنهم ومسؤوليتهم أكبر من ذلك، ولاشك أن هذه الحادثة وأمثالها من أكبر الأدلة على التطبيق الدقيق الذي كان عليه السلام يمارسه في أموره العسكرية والسياسية. (راجع التراتيب، جـ 1 ، ص 235 – 236).
ك- الغنائم: وضع الإسلام نظاماً خاصاً لتوزيع الغنائم بوضع الخُمس في يد الدولة وتوزيع الأربعة أخماس على المقاتلين، سهم للراجل وسهمان للفارس، وقد نظم الرسول عملية جمعها وحفظها وقسمتها وكتابة ذلك وبيع ما يمكن بيعه منها(انظر التراتيب ، جـ 1 ، ص 381 – 382).
ك- حشد القوة : وقد ظهر ذلك في أكثر غزواته، لاسيما الخندق والفتح وتبوك وحنين والطائف وأوطاس وأُحد، ويظهر أن الحشد يتم من خلال العرفاء والنداء العام، ومن خلال الكتابة والتسجيل للمشاركين، وقد ورد في مسلم عن ابن عباس قال: ” سمعت رسول الله يقول: “…. ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني كنت في غزوة كذا وكذا قال: انطلق مع امرأتك”، وقد طبق حشد القوى بشكل واضح ودقيق في غزوة تبوك فلم يسمح لأحد بالتخلف، وحُوسب المتخلفون عن ذلك، فاعتذر المنافقون بشتى الأعذار، وصدق الثلاثة الذين خلفوا فلم يعتذروا فعُوقِبوا على ذلك، وإن حشداً يصل إلى ثلاثين ألف لا يتخلف فيه إلا ثمانين منافقاً وثلاثة من الصادقين لدليل على دقة التنظيم والمتابعة، وكان طوال الغزوة يسأل عن المسلمين: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان ؟ وعن الاستنفار العام (انظر التراتيب ، جـ 1 ، 317).
م- التمويه واستعمال كلمة السر: لحماية القائد وتضليل العدو عنه لبس الرسول لامة كعب بن مالك، ولبس مالك لامته، وكانت متميزة فأصيب بأحد عشر جرحاً ظناً من العدو أنه رسول الله وذلك في غزوة أُحد(التراتيب، جـ1، ص325)، وكان المسلمون يستخدموا شعاراً لفظياً للتعارف من ناحية عند التحام القتال ولرفع المعنويات ، وكانت الألفاظ المختارة بذلك مناسبة مثل: هم لا ينصرون، وأنت يا منصور، (انظر التراتيب ، جـ1، ص3270328).
وللنظر في التنظيم العسكري للرسول بشكل عام ارجع إلى كتاب(الرسول القائد، لمحمود شيت خطاب).
6- السياسة الخارجية:
اظهر الرسول اهتماماً مبكراً بالعالم الخارجي ” خارج مكة ، والجزيرة العربية ” فهو يذكر فارس والروم ويعد المسلمين بأنهم سيملكون أرضهم وديارهم مما يثير سخرية المشركين، بل ويعد القبائل وهو يدعوهم في العهد المكي بذلك، وما الحوار والمراهنة التي دارت بين أبي بكر والمشركين ونزلت على اثرها سورة الروم إلا دليل عناية المسلمين بالعالم الخارجي واهتمامهم، فلما أُسست الدولة في المدينة أصبح الاهتمام بهذا الأمر أكبر.
لا شك أن الجهاد وتوسعة رقة الدولة الإسلامية والخروج عن نطاق المدينة المحدود حتى شملت الدولة الإسلامية قبل وفاة الرسول الجزيرة العربية كلها وأطراف الشام وقاعدة لا بأس بها في الحبشة، كل ذلك هو نوع من العمل العسكري الذي ينتهي بنتيجة سياسية، ولكن من مظاهر تنظم الدولة الخارجية في عهده أمران: مراسلة الملوك والحكام والوفود وكيف تعامل معهم الرسول :
أ- المكاتبة: وقد حصلت هذه المكاتبة مرتان: المرة الأولى في السنة السادسة بعد صلح الحديبية، وهي دعوة إلى الإسلام والتوحيد والإقرار بالنبوة فقط، أما المرة الثانية فهي في السنة التاسعة في تبوك يدعو هؤلاء الملوك إلى الإسلام ويُخيرهم بين الإسلام أو الجزية قبل القتال، ومصادر هذه المراسلات الصحاح والسنة والمسانيد، وقد فصل في ذلك د. أحمد فؤاد سيد في كتابه تاريخ الدعوة (ص 259-294) تفصيلاً شافياً وافياً يمكن الرجوع إليه، ثم أعاد التفصيل والتحليل من (ص 411-763) آخر الكتاب ووعد بالمواصلة في الجزء الثاني من كتابه ، ولم يتيسر لي الحصول عليه، والذي يعنينا هو دلالة هذه المراسلات على تنظيم دعوته ودقتها وأنها مرتبة على مراحل وتخطيط واضح كل هدف فيه يوصل إلى الهدف الذي بعده.
ب.- معاملة الوفود : لاشك أن التعامل مع الوفود بأسلوب مميز له أكبر الدلالة على دقة التنظيم والتخطيط للدعوة سواء كانت تلك الوفود من جاء للمبايعة وإعلان الطاعة ، أو من وفود المستطلعين عن خبر هذه الدعوة وهذا النبي، أو وفود الملوك المناوئين.
وقد عقد الكتابي في (التراتيب جـ 1 ، ص 444 – 452) عدة فصول ذكر فيها أنه جهز لهم داراً خاصة وأجرى عليهم الأرزاق، وعين قائماً على هذه الدار، وهؤلاء الوفود وأن تجمل لهم واستعد وأجازهم الجوائز وأنه قابل شاعرهم بشاعر رسول الله وخطيبهم بخطيبه وأنه فارخهم وناقشهم.
7. التنظيم المالي :
رأينا في المقدمة كيف ادعى من ادعى بأن الرسول لا يبالي من أن جاء المالي، ولا كيف أُنفق وخلط هذا الحديث بين تصرف الرسول فيما يخصه من مال، وأنه لا يبقى عليه زهداً في الدنيا، وتقليلاً منها وبين تصرفه في أموال الأمة، فظن أن الرسول لا ينظم أعماله المالية، وإن نظرة سريعة على الأنظمة المالية في عهده تلغي هذا الظن وتؤكد أن الرسول ينظم مداخل الأموال ومخارجها ومواردها ومصارفها.
عقد د. محمد السيد الوكيل باباً كاملاً من كتاب المدينة المنورة ( ص 139 – 216) عن الحالة الاقتصادية في عهد الرسول يتبين من قراءة فصوله مدى تنظيم الاقتصاد في ذلك الوقت:
1. أُسس الاقتصاد: العمل، حرية التملك ، مسؤولية الدولة .
2. مصادر الدخل في الدولة الإسلامية : أ- الزكاة ، ب- خمس الغنائم،
ج- الخراج د- الجزية ه-ـ عشور التجارة .
3. الميراث وأثره في الاقتصاد ، النقود في الإسلام، المكاييل والموازين ، المعاملات في الإسلام ، الدخل الفردي ، السوق ، النشاط التجاري والصناعي في السوق. وكذلك فإن الكناني عقد في كتابه (التراتيب جـ 1 ، ص 391 – )444 عدة فصول عن هذا الجانب يكفينا فيه ذكر عناوين هذه الفصول مع الإشارات السريعة: ” باب في صاحب الجزية، باب في صاحب الأعشار ، في متولي خراج الأرضين . باب العامل في الزكاة ، باب في ذكر من كان يكتب الصدقات” ، وهذا يدل على أنه يسجل هذه الأمور ويدونها، وكان كاتبه في ذلك الزبير بن العوام وحذيفة بن وجهيم بن الصلت ، باب في الخارص ، باب في الوقف ، باب في المستوفي وهو الذي يبعثه الإمام ليتقبض المال من العمال ويتخلصه منهم ويقدم به عليه ، باب ذكر من وكله لحفظ الزكاة في رمضان ، باب من كان على خمسة ، باب في الجواز بين خازن الطعام، وفي الصحيح أنه كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنة ، وفي جامع الترمذي أنه كان يعزل نفقة أهله سنة – الكيالي ، النقود واستعمالها ، الأكيال المستعمل في زمنه ، باب في النفقة على رسول الله وهو مع باب خازن الطعام يؤكد أنه كان ينظم عملية نفقته الخاصة ولا يتركها للصدف والمناسبات ، باب في الوكيل يوكله الإمام في الأمور المالية. وهنا ذكر حديثاُ في أبي داؤود عن جابر بن عبدالله قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله فقال ، إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته ” وفيه عنعنة ابن اسحاق .
وعقد الكتاني كذلك فصلاً عن ثبوت العطاء في زمنه وعن تدوين الدواوين ( جـ 1 ، ص 224 – 229) بين فيه كيفية العطاء وتوزيعه وضبط ذلك بالكتابة نقلاً عن ابن العربي في كتاب الأحكام وأورد قصة عطاء المؤلفة قلوبهم، وأنه كتب لهم كتاباً وأن أبابكر أمرهم أولاً ثم جاءوا ثانياً فأقرهم فنقض ذلك عمر ومزق كتابهم وقال قد أعز الله الإسلام.
وعقد الكتاني فصلاً في التراتيب ( جـ 1 ، ص 236) عن محاسبة النبي لعماله وأورد قصة ابن اللتبية وهي في البخاري وسيرد ذكرها في التنظيمات الإدارية ، وختاماً فإن نظرة واحدة على كتب الفقه وما فيها من المعاملات المالية التفصيلية الدقيقة المأخوذة من توجيهات النبي لأكبر شاهد على دقة التنظيم المالي في زمانه .
8- التنظيم الإداري عند رسول الله :
لخص الدكتور حزام المطيري في كتابه (الإدارة الإسلامية ص 113 – 128) خصائص التنظيم الإداري الإسلامي في ضوء التوجيهات النبوية فبين أنها قائمة على عدة أمور :
أ. الإمارة والتدرج الهرمي ، وأورد حديث الرسول الصحيح ” لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة إلا أُمروا عليهم أحدهم”.
ب. التوازن بين الرعاية ( ولاية الأمر) والمسؤولية : وأورد حديث ” كلكم راع …”
ج. وجوب الطاعة في المعروف ، وأورد أحاديث الأمة بالسمع والطاعة بالمعروف في غير معصية وهي مشهورة متواترة .
د. التخصص وتقسيم العمل: وأورد حديث ” إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة ، قيل كيف اضاعتها يا رسول الله ، قال : إذا أُسند الأمر على غير أهله ” وعزاه إلى البخاري ومسلم نقلاً عن عبدالله قادري ، وأورد حديث ” استعينوا على كل صنعة بصالحي أهلها ” وعزاه إلى مراد محمد علي في أحد كتبه، وذكر أنه لم يوثقه ولم يعزه إلى مصدر وهو في كشف الخفاء للعجلوني وفي الدرر للسيوطي فهي ضعيفة .
هـ. الشورى الإيمانية : وأورد أحاديث الشورى.
و. العمل الصالح : الحياد والموضوعية بدافع إيماني، وأورد فيه قول الرسول ” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ” وهو صحيح، وحديث ” من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله ” وعزاه للحاكم وهو فيه فعلاً ولكنه ضعيف جداً ولكن الأحاديث التي بمعناه كثيرة صحيحة.
ز. التوثيق والتدوين مع البساطة والتيسير: وأورد فيه أحاديث أرى أنها ليست من بابه.
ح. تنمية الرقابة الذاتية ومحاسبة النفس وأورد فيه حديث الإحسان أن تعبد الله….
طـ. العلم والتربية والتدريب: وأورد فيه أحاديث كثيرة لا أرى أنها مناسبة للباب .
ي. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وأورد فيه حديث ” من رأى منكم منكراً” وحديث ” الدين النصيحة “.
ثم أورد تطبيقات النظام الإداري الإسلامي في عهد الرسول ص 128 فتكلم عن الولاية العظمى، وهي ولاية المسلمين عامة واختصر فيها، ثم تكلم عن الإدارة الوسطى أو الولاية الوسطى فتكلم عن الكُتاب وبين أن عددهم في عهده تجاوز الأربعين كاتباً والمعلمون وهم معلمو الفقه والقرآن وتعليم الكتابة للرجال وذكر منهم عبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل وصعب ابن عبير ، والنساء وكانت مهنتهن الشفاء أم سليمان.
ثم تكلم عن المحتسبين وذكر أنه كان يحتسب النفقة وقد عين عدداً من الصحابة للقيام بهذا الأمر كابن عمر في المدينة وخبره في البخاري وسعيد بن العاص في مكة.
والإحصاء والتعداد : وذكر حديث حذيفة بن اليمان في البخاري أن الرسول قال : “أحصوا لي من تلفظ بالإسلام فكتبت له ألفاً وخمسمائة رجل”.
ذكر منهم ولاة المناطق كمكة والبحرين ، وولاة القبائل، وقد أسهب المتقدمون في الحديث عن ولاة رسول الله ، وكذلك عمال الصدقات والزكاة والجزية والخراج ، وكذلك تكلم عن قضائه وإنه هو المختص بالقضاء والفتوى في زمنه، إلا أنه أذن لبعض الصحابة في ذلك فأذن بالقضاء لعمر وعلي ومعاذ بن جبل.
وجعل صاحب الكتاب أمراء الجيوش والسرايا جزءاً من الإدارة المتوسطة في زمن النبي .
ولخص الدكتور حزام المطيري في الكتاب السابق( ص 168 – 172) سياسة الأفراد إدارياً في زمن النبي وحدد لهم بعض السمات:
أ. تحديد الاحتياجات والمواصفات وأخذها من وصف النبي لبعض أصحابه ” أرحم أمتى بأمتى أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر …. ” ـ ” خذوا القرآن عن أربعة : من ابن أم عبد…. ”
ب. الاختبار والمقابلة وأخذها من حوار الرسول مع معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن … ، والحديث ضعيف .
ج. الاختيار والتعيين : وأورد الأحاديث السابقة في فقرة (و) مما سبق .
د. توفير جو العمل المناسب : وأخذه من حديث ” إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم….” وحديث أنس ” لقد خدمت رسول الله سبعة عشر سنين فما قال …. ”
وحديث ” من ولي لنا شيئاً فلم يكن له امرأة فليتزوج …. ” وهو صحيح الإسناد كما قال الألباني .
هـ. العدل والمساواة بين العاملين: وأورد فيها بعض الأحاديث.
و. الكفاءة الإنتاجية ومستوى الأداء وأطال فيها .
ز. التدريب وتنمية القدرات: وأورد فيها نفس الأحاديث الواردة في الفقرة الثامنة في التخصص السابق.
ح. الحوافز والجزاء ” العقاب” : وأورد فيه أحاديث جيدة مثل ” من استأجر أجيراً فليُعلِمه أجره” و”اعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ” و ” ثلاثة أنا خصهم يوم القيامة … رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره .. ” وغيرها .
وفي (ص 201-203) أورد نماذج من الرقابة الإدارية في عهده وأشار إلى الحديث السابق ذكره عن المحاسبة المالية ” حديث ابن اللتبية” وذكر عزل الرسول الإمام العلاء عن البحرين لما شكاه وفد عبد القيس وتعيين إبان بن سعيد وأحال هذا الخبر على مؤلف حديث ولم يذكر أن صاحب الكتاب هذا أمال على مرجع معتمد يُعرف منه صحة الخبر وذكر أمر النبي بتعويض رجل تظلم إليه من قيام أبي جهم بن حذيفة عامله على الصقفة بضربه لمماطلته في أداء الصدقة وأحال على مؤلف حديث أحال بدوره على نيل الأوطار للشوكاني بدون تحديد الموضع .
9. الأمانة والوزارة – الولاية والقضاء: وقد سبقت الإشارة المختصرة بشيء من هذا ونزيد إيضاحاً بالرجوع إلى بعض المصادر فقد عقد الكتاني في (التراتيب ، جـ 1 ، ص 17) فصلاً عن وزراء رسول الله ” أبي بكر وعمر ” وبحث في أسانيد الأحاديث التي تذكر الوزير: وزير الصدق ووزير الخيانة ” وذكر أبي بكر وعمر في مقام الوزارة ومال إلى تحسينها بمجموع طرقها، وكذلك فقد عقد الصالحي في سبل الهدى والرشاد فصلاً عن قضائه ووزرائه وولاته( جـ 11 ، ص 325) فيما بعد أطال فيه وحصر لا تحقيق ولكنه أجاد في الحصر والبيان ،وكذلك الكتاني في (التراتيب ذكر في جـ 1 ، ص 250) ذكر عن قضاته ، وفي (ص 256) عن قضاته
10- العلم والتعليم في عهده :
عقد الكتاني باباً كبير في (التراتيب جـ 2 ، 168 – 416) عن العلم والتعليم في زمنه ومدى العناية به وآدابه فجمع واستوعب ودلل على عظيم العناية بأمر العلم بدءاً بالقرآن وانتهاءً بغيره، وقد ذكر ابن اسحاق عن مجاهد قال : ” كان إذا نزل القرآن على رسول الله قرأه على الرجال ثم على النساء ” (ابن اسحاق المطبوع منه ص 128) بإسناد جيد إلى مجاهد وهول يدل على العناية المبكرة بتعليم القرآن فالرواية المذكورة تتكلم عن العهد المكي .
وجاء في (الطبقات لابن سعد ، جـ 4 ، ص 206) إقراء مصعب وابن أم مكتوم للناس بعد هجرتهما إلى المدينة وقبل هجرة الرسول وإسناده صحيح . وعقد الكتاني في (التراتيب جـ 1 ص 40 – 47) فصلاً جيداً عن تعليم القرآن في زمنه بشكل منظم ذكر فيه معلمي القرآن في مكة والمدينة ومن أرسلهم إلى مناطق أخرى لتعليم القرآن، وتكلم عن حفَّظة القرآن في زمنه .
وعقد فصولاً في نفس الكتاب( جـ 1 ، ص 114 – 135) عن كتاب الوحي لرسول الله ، وعن كتابه مطلقاً فصل فيه وأطال ، وفي( جـ 1 ، ص 202 ، 205) عقد الكتاني فصولاً عن تراجمة النبي مما يدل مدى عناية النبي بالترجمة من اللغات الأخرى وأهميتها من الناحية العقيدية والأمنية والسياسية فذكر زيد بن ثابت وخبره في البخاري. وفي (جـ 1 ، ص 48 – 55) عقد فصلاً عن تعليم الكتابة وأطال فيه ذلك في تعليم الكتابة للرجال والنساء.
11. بعض التنظيمات الأمنية والخدمية والهندسية عقد الكتاني فصلاً عن صاحب سر رسول الله وهو حذيفة ( جـ 1 ، ص 2) وعن الأذن عليه والنواب ( جـ 1 ، ص 23) وهم عُدة بلال وعمر.
وفي (جـ 1 ، ص 292 – 285) عقد فصلاً عن صاحب ؟؟؟؟ النبي وقد سبقت الإشارة إلى الحراسة.
وفي (جـ 1 ، ص 284 – 285) عقد فصلاً عن المحتسب وتولية السوق شخصياً مسؤولاً عنه .
وفي (جـ 1 ، ص 71) عقد فصلاً عن جمع الناس للرسول بواسطة المنادي إذا احتاج إلى ذلك.
وكذلك أشار إلى ذلك ص (290 –291) من نفس الكتاب ، وأشار في ( جـ 1 ، ص 294 – 295) إلى السجن واستخدامه في زمنه ولكنه كان سجناً مبسطاً وخاصاً بالرجال.
وفي (جـ 1 ، ص 282)عقد الكتاني فصلاً في نهيه عن قطع طريق المسلمين عند البناء والتضييق عليهم في منازلهم.
وفي (جـ 2 من أول الكتاب إلى ص 167) عقد فصولاً عدة عن الصناعات والتجاوزات والفنون في زمنه ، وفي (جـ 1 ، ص 453 – 471) من التراتيب للكتاني عدة فصول عن المستشفيات والطب في زمنه .