بسم الله الرحمن الرحيم
الدولة العثمانية ما لها وما عليها
مقدمة:
أولاً: الدولة العثمانية أصبحت تاريخاً، فليس هناك حرج في الحديث عن مساوئها.
ثانياً: لا ينبغي أن يكون تقييمنا للدولة العثمانية رد فعل على هجوم القوميين والعلمانيين عليها فنقوم بالتمجيد والتغاضي عن عيوبها ونواقصها.
ثالثاً: التاريخ مدرسة وعبرة، فَقِراءة تاريخ الدولة العثمانية بعينٍ مفتوحة والتعرف على أسباب سقوطها يُفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا.
رابعاً: الدولة العثمانية ليست دولة الخلفاء الراشدين ولا دولة بني أُميَّةَ وبني العباس الواقعة في القرون الثلاثة المفضلة، فلا ينبغي التحمس في الدفاع عنها، لأنها لا تمثل التاريخ الإسلامي الصحيح الذي يمثل الإسلام الصحيح، ولا تمثل فترةً من التاريخ المُشرق للأمة الإسلامية حتى نبذل جهداً كبيراً في الدفاع عن خلفائها وقادتها.
خامساً: ما هو مدى شرعية الدولة العثمانية؟ إن شرعية الدولة العثمانية لا تعدو أن تكون شرعية المتغلب الذي تجب طاعته حفظاً لوحدة المسلمين وعدم إثارة الفتنة، وكذلك شرعية القوي الذي حمى حدود الأمة الإسلامية فترة من الزمن، وسعى إلى مدِّ سيطرة الإسلام على كثير من مناطق أوروبا.
فلم يكونوا خلفاء من قريش، لهم شرعية قول النبي : “الأئمة من قريش” (حلية الأولياء: 3/200)، ولم تكن لهم شرعية العمل بشرع الله، والقيام على حدوده، مُعتقَداً وعملاً وتطبيقاً، بل سنرى أنهم حتى في أوج قوتهم وسيطرتهم بعيدون كل البعد عن ذلك.
1/ إيجابيات الدولة العثمانية:
أهم إيجابيات هذه الدولة هي: الدفاع عن المسلمين بقوة، السلاح ونشر الإسلام في مناطق شرق أوروبا، والمحافظة على وحدة المسلمين نسبياً كرمز من الرموز.
2/ سلبيات الدولة العثمانية:
الخلل العقائدي، والاستهانة بتطبيق الشريعة الإسلامية والتساهل فيها منذ زمن مبكر، وقسوة خلفاء العثمانيين مع بعضهم ومع أقاربهم، والخلل المالي والرشاوى وبيع المناصب، والثقة بالأجانب وتوليتهم المناصب، تسلط النساء على الخلفاء وكثير منهن من الأجنبيات المدسوسات، وعدم العناية بالتعريب، وإهمال جانب التقدم العلمي وعدم مسابقة الغرب في ذلك، والسماح بالامتيازات للأجانب حتي في زمن القوة الأولى.
أ- الخلل العقائدي:
ونشير في هذا الجانب إلى أن أورخان الأول بن عثمان لما أسس جيش الانكشارية وتجمع لديه عدد منهم، ذهب إلى شيخ الطريقة البكتاشية الحاج (بكتاش) ليدعو لهم فدعا لهم بالنصر على الأعداء، وظهر في زمن السلطان محمد جلبي الأول شخص من علماء ذلك الزمن دعا إلى وحدة الأديان والأجناس وشيوعية المال والنساء وساعده على ذلك (بير قليجة مصطفى) و(طورلان كمال) وهو من أصل يهودي على نشر مذهبه، ولم يكن القضاء عليه إلا بعد عشر سنين من ظهوره، والشاهد هو وجود عالم من كبار العلماء وقضاة العسكر يحمل هذه الأفكار.
وكذلك فالسلطان محمد الفاتح جاءه شيخه الصوفي (آق شمس الدين) أثناء حصار القسطنطينية وأخبره أنه رأى رسول الله ، وأنه أخبره بمكان قبر أبي أيوب الأنصاري وحدده له فبنى عليه مسجداً بعد الفتح، ولا زال هذا المسجد قائماً.
ب- الاستهانة بتطبيق الشريعة الإسلامية والتساهل فيها منذ زمن مبكر:
يقول المؤرخ محمد فريد بك المحامي-وهو محب للدولة العثمانية- عن محمد الفاتح: “وَضَعَ أول مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات فأبدل العقوبات البدنية، أي السنّ بالسنّ والعين بالعين، وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفيةٍ واضحةٍ أتمها السلطان سليمان القانوني الآتي ذكره” (تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 177-178).
“وفي عهد مراد الثالث 982هـ أصدر السلطان أمراً بمنع شرب الخمر الذي شاع استعماله أيام السلطان السابق (سليم الثاني) وأفرط فيه الجنود خصوصاً الانكشارية، فثار الانكشارية لذلك واضطروه لإباحته لهم بمقدار لا يترتب منه ذهول العقل وتكدير الراحة العمومية” (تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 259).
“وفي عهد أحمد الأول 1012هـ أدخل الفَلمنك (البلجيك) في البلاد الإسلامية استعمال التبغ أي تدخين الدخان، فعارض المفتي في استعماله وأصدر فتوىً بمنعه فهاج الجند واشترك معهم بعض مستخدمي السراي السلطانية حتى اضطروه إلى إباحته” (تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 275).
ج- قسوة الخلفاء العثمانيين مع بعضهم ومع أقاربهم:
يُستثني من ذلك تصرف أورخان الأول مع أخيه الأكبر علاء الدين الذي رضي بعدم وصول الخلافة إليه، وقَبِلَ أن يكون وزيراً لأورخان، وقد سَنَّ لهم هذه السُّنَّة السيئة بايزيد الأول في قتل أخيه يعقوب، وكذلك السلطان محمد الفاتح قتل أخاً له رضيعاً اسمه أحمد، وكذلك السلطان سليم الأول قتل أخويه وخمسة من أبناء إخوته، وقتل السلطان سليمان القانوني لولده الأكبر مصطفى بِدسِيسة زوجته الروسية الأصل (روكسلانا)، وكذلك قَتلُه لابنه الآخر بايزيد وأولاده الخمسة بدسيسة مربي الولد الآخر (سليم) واسمه (لا له مصطفى)، وكذلك فعل مراد الثالث بإخوته الخمسة.
وكذلك فعل محمد الثالث 1003هـ بإخوته التسعة عشر الذين خنقهم ودفنهم قبل دفن أبيه، وكذلك فعل عثمان خان الثالث 1027هـ بأخيه محمداً.
د- الخلل المالي والرشاوى وبيع المناصب:
“وفي أوائل حكمه (محمد الثالث) سار على إثر سلفه في عدم الخروج إلى الحرب، وترك أمور الدولة في أيدي وزرائه الذين منهم سنان باشا وجفالة زاده (وهو ابن القائد جفالة باشا الجنوي الأصل، الذي قُتل في مُحاربة العجم الأخيرة، وصحة اسمه سيكالا ثم حُرِّف فصار جفالة)، وآخر يُدعى حسن باشا، ففسدوا في الأرض، وباعوا المناصب الملكية والعسكرية، وقللوا عيار العملة حتى علا الضجيج من كل مكان…..” (تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 267).
“وبعد ذلك –أي بعد قتل عثمان الثاني 1031هـ- صارت الحكومة ألعوبة بيد الانكشارية يُنَّصِبون الوزراء ويعزلونهم بحسب أهوائهم، فعزلوا داود باشا قاتل السلطان بعد بضعة أيام، وصاروا يمنحون المناصب لمن يُجْزِل إليهم العطايا، فكانت الوظائف تُباع جِهاراً” (تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 279).
ه- الثقة بالأجانب وتوليتهم المناصب:
“وذلك أن الكثير منهم يعلن الإسلام ويُعطى الثقة مباشرة، وربما كان دخل في الإسلام لغرض معين، ويكفي أن نعلم أن طبيب محمد الفاتح كان يهودياً وأنه متهم بتسميمه.
ويتعجب السلطان عبدالحميد الثاني من كثرة المتقدمين لطلب الأعمال من الأجانب، ويقول: لقد وصلني في أسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة، يطلب أصحابها عملاً في القصر حتى ولو حرَّاساً للحريم (خصيان) أو (أغوات) وكانت الرسالة الأولى من موسيقيٍ فرنسيٍ، والثانية من كيميائي ألماني، والثالثة من تاجر سكسوني…” (بتصرف تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص 732).
و- تسلط النساء على الخلفاء، وكثير منهن من الأجنبيات المدسوسات:
ويشار في ذلك إلى (روكسلانا) الروسية زوجة سليمان القانوني، ومراد الثالث ابن صفية الإيطالية الأصل.
ز- عدم العناية بالتعريب.
ح- إهمال جانب التقدم العلمي وعدم مسابقة الغرب في ذلك.
ط- السماح للأجانب بالامتيازات المخلة بوضع الدولة حتى في وقت القوة:
وننقل هنا بعض بنود المعاهدة سنة 1553 المُبرَمة بين الدولة العثمانية وفرنسا، وذلك في عهد أقوى سلاطين الدولة العثمانية سلميان القانوني.
البند الرابع: “لا يجوز سماع الدعاوى المدنية التي يقيمها الأتراك، أو جباة الخَراج أو غيرهم من رعايا جلالة السلطان ضد التجار أو غيرهم من رعايا فرنسا، أو الحكم عليهم فيها ما لم يكن مع المدعين سندات بخط المُدَّعى عليهم، أو حجة رسمية صادرة من القاضي الشرعي أو القنصل الفرنسي، وفي حالة وجود سندات أو حجج لا تُسمع الدعوى أو شهادة مُقدِّمها إلا بحضور تُرجمان القنصل”.
البند الخامس: “…قريباً منه وفحواه أن الدعاوى على الرعايا الفرنسيين لا تُقبل إلا أمام الصدر الأعظم”.
البند العاشر: “منع الاسترقاق مطلقاً لرعايا الدولتين”.
البند الثاني عشر: “وجوب خدمة الأساطيل الفرنسية، مدنية كانت أو عسكرية في موانئ العثمانيين”.
البند الرابع عشر: “لو هرب أحد الأرقاء المملوكين لأحد العثمانيين، واحتمى في بيت أو مركب أحد الفرنساويين فلا يُجبر الفرنساوي إلا على البحث عنه في بيته أو مركبه، ولو وُجد عنده يُعاقب الفرنساوي بمعرفة قنصله ويرد الرقيق لسيده، وإذا لم يوجد الرقيق بدار أو مركب الفرنساوي، فلا يُسأل عن ذلك مطلقاً”. (بتصرف تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص241-249).
وفي عهد السلطان سليم الثاني بن سليمان أُكِّدت هذه المعاهدة وَزِيد عليها ما هو أسوأ منها.