الشيخ خليفة بن بطاح الخزّي -رحمه الله- في سطور
علي بن صالح الزيدي في: 15 شوال 1436هـ
الحديث عن هذه الشخصية ذو شجون، وجوانب الكتابة في شخصيته كثيرة، لكن الكتابة عنه بمقال مما يُوجِب الإيجاز والاختصار، مؤكداً أن حاجة الساحة التربوية والدعوية إلى الكتابة عن الشيخ وحياته العلمية، والدعوية، وجهاده العلمي، ومشروعاته تتطلب ترجمة وافية شاملة عن جوانب شخصيته، والكتابة هنا هي عن ما أراه من أبرز الجوانب في شخصيته، وهي لا تعدو أن تكون عن أبعاد ثلاثة: البعد الأخلاقي، والبعد الثقافي، والبعد الفكري والدعوي.
- البعد الأخلاقي:
لعل الاكتفاء بذكر ثلاث سمات بارزة في شخصيته مما هي موطن اتفاق وإجماع من قِبَل محبيه وعارفيه على السواء مما يتناسب مع المقال، (فالتواضع) صفة ملازمة له تبدو في تصرفاته وملبسه ومركبه، ومن تواضعه مساواته بين الصغير والكبير في التحية والاهتمام بشأن الشخص المقابل، إذ لم يكن لديه تمييز بين الأشخاص، ولذا كثر محِبُّوه ومحترموه، فالبقالة -على سبيل المثال- التي كان يرتادها الشيخ بصفة مستمرة للتبضع عكست شيئاً عن شخصيته، فشخصيته المتواضعة كوَّنت علاقة حميمة مع البائع، وهو أخ سوداني يحترمه احتراماً كبيراً، وكان ممن حضر جنازته، وكان حزيناً لفقده حزناً شديداً.
ومن تواضعه عدم حبِّه للظهور، وهذا ليس تكلُّفاً منه، بل هي سجيَّةٌ فيه متأصلة عنده، وقد حاول بعض تلاميذه في إحدى المناسبات أن يُظهر الاهتمام به وبمكانته فأبى ذلك بشدة، بل وغضب من ذلك، ومن جوانب التواضع في شخصيته أنه لم يكن يرى لنفسه على أحد حقاً من محبيه وزملائه وغيرهم، وأذكر في هذا أنه قابل مرةً صديقاً له بعد اشتداد المرض عليه، ومنذ مدة طويلة لم يره مع أنه له الحق في الزيارة كمريض، لكنه اكتفى بقوله: أهلا بالغالي الذي يتغلَّى، ومن تواضعه أنه كان متسامحاً، عفوَّاً حتى مع من أساء إليه، فقد سمعته مرة وقد ذُكِرَ عنده أحد الأشخاص الذين آذوه، فقال بالحرف الواحد: أما فلان فلا أحمل في نفسي شيئاً عليه، مع أنه ناله منه أذىً كثيراً فعليٌ وقوليٌ، ومما يُعدُّ من تواضعه قبوله لأي دعوة توجه إليه وخاصة إذا كان يرى فيها فائدة تعم الحاضرين من نقاشات وحوارات مفيدة.
وعن السمة الأخلاقية الثانية فهي (الصبر) فقد مرَّت عليه -رحمه الله- مِحَن عدة خرج منها ثابتاً راسخاً على منهجه مستمسكاً بالحق، لم تؤثِّر الابتلاءات في قوة مسيرته، ولعلَّ من أبرزها صبره المتميز في مرضه الذي مات على إثره، فبالرغم من علمه أن المرض خطير إلا أنه كان صابراً متجلداً محتسباً، بنفسية رائعة، وكأنه لم يُصَب بشيء، كما لم يكن يشتكي لأحد، فإن سألته عن حاله وصحته سبق جوابه الحمد لله والشكر له، بل إنه حينما يعطيك تفاصيل علاجه ومراجعاته فكأنه يحكي لك قصة أو حدثاً عادياً ليس بحديث المصاب بمرضٍ خطير معروفة نتيجته معه ومع غيره.
واستمر الشيخ يستقبل زوَّاره ومحبيه في مجلسه المفتوح المعتاد في كل أسبوع وفي العطل والمناسبات على مدى أكثر من عامين، وحتى قبيل رمضان 1436هـ الذي توفي فيه كان يستقبل تلاميذه ومحبيه بالرغم من أن المرض قد اشتد عليه كثيراً، لكنه كان يتحامل على نفسه ليحقق لمحبيه مبتغاهم في الجلوس معه، والاستئناس به، ولا سيما أنهم يحبون رؤيته للاطمئنان على صحته، ولينهلوا من علمه ورؤيته الثاقبة حول الأحداث ومجرياتها، واستأذنه البعض ليخصص لهم وقتاً لزيارته في رمضان لكنه اعتذر مشيراً بيده حيث كان الكلام صعباً عليه -رحمه الله- وكأنه يشعر بدنو الأجل، -وسبحان الله- فماهي إلا أيام قليلة بعد ذلك اللقاء ليدخل في الإغماء الذي توفي فيه.
وكانت السمة الأخلاقية الثالثة فيه (الانضباط) ومن ذلك حرصه الشديد وانضباطه على انفاذ مواعيده مع الآخرين، وعدم التخلف عنها، بل والحضور المبكر في وقتها المحدد.
ومن ذلك ملازمته واستمراره مع دورية قديمة له من زملائه المدرسين في الثانوية سابقاً، حيث استمر معهم حتى بعد مرضه وفاءً لهم وحبا للقياهم.
وله دوريات عائلية كان ملتزماً بها إلى أن أعياه المرض عن مواصلة ذلك، وكان خلالها يشارك الحضور بتوجيهاته النيِّرة ورؤيته الثاقبة حول الأحداث، فقد كانت لقاءاته -رحمه الله- ثرية بالمعلومات والتحليلات، وقلَّ أن تخرج من مجلسه بغير فائدة علمية أو معرفية.
ومن انضباطه مع نفسه في برنامجه اليومي العجيب المليء بالمطالعات والمتابعات والقراءة والكتابة وأنَّى لهذه بأن تجتمع في شخص لو لم يكن هناك انضباط شديد مع النفس والوقت.
والشيخ له فلسفته الخاصة في التعاطي مع مغريات الطعام والوجبات، فقد كان حريصاً على الابتعاد عن ما يؤثر على صحته، فهو من المبتعدين عن أطعمة الأصباغ والمواد الحافظة وغير الصحية وما شابهها، ولم يكن يتناول شيئاً من الطعام إلا في مواعيده المحددة، فكان يرفض الأكل فيما بين الوجبات.
وأما المنبهات فله موقف قديم معها، فقد قاطعها منذ أكثر من عشرين عاماً، فمرَّة أصابه صداع شديد، وحين علم أن ذلك بسبب عدم شربه للشاي والقهوة لبضع ساعات قرر مع نفسه -رحمه الله- ألا يكون أسيراً أو رقيقاً لهذه المنبهات، فقاطعها مقاطعة تامة إلى أن توفاه الله.
- البعد الثقافي:
تكَوَّن لدى الشيخ في وقت متقدم من عمره جانب ثقافي متميز، فكونه يتمتع بالذكاء وقوة الذاكرة، والقدرة على النقد والتحليل مع كونه قارئاً نَهِماً من الطراز الأول، لا سيما في عمره المبكر بتركيزه على القراءة في مصادر ثقافية راسخة ذات عمق فكري، يختلف الشيخ معها كثيراً فكرياً، لكنه استفاد منها في نواحي متعددة، ومن ذلك متابعته لمجلة العربي الكويتية، فهي مجلة ثقافية لها منحىً فكري معين، لكنها تمنح قارئها ثقافةً واسعه واطلاعاً على نواحي متعددة من أحوال الشعوب وثقافاتها، كما أنها تدعم الجانب الأدبي للقارئ بشقيه الماضي والحاضر خاصة بما فيها من تنوع ثقافي، وكان مما يقرأُ في ذلك الزمن مجلة الحوادث اللبنانية، وهذه أفادته في تكوين البعد السياسي لديه، وأعني بذلك متابعته للأحداث السياسية عبر عقود من الزمن وفي عمر مبكر، واكتسب من تحليل ما يَرِدُ في تلك المجلات بأن أصبح هو ذاته مُحللاً دقيقاً، لا سيما مع الخلفية العلمية والفكرية العميقة، وكثيراً ما كان يستدل على الأحداث من خلال مقابلات أو مقالات أوردَتها المجلات السابقة في أعدادها.
وفي الوقت ذاته فمتابعته للأحداث السياسية متابعة يومية من خلال المذياع قديماً وخاصة إذاعة البي بي سي إضافة إلى المجلات والصحف المحلية والإقليمية، وانتهاءً بالانترنت حديثاً، كل هذا أو بعضه مما جعل منه شخصية غير عادية، فما عليك إذا أردت معلومةً منه إلا أن تأتي بكلمة أو شخصية لها علاقة بما تسأل عنه، فستجد نفسك أنك تأخذ منه ما أردت وأكثر مُدعِّماً حديثة بالأرقام والتواريخ والأيام، لافتاً النظر إلى المصادر والمراجع في هذا الموضوع، وفرق بين من يقرأ الحدث من خلال ظواهره فقط، وبين من يسبر غوره تحليلاً ونقداً واستشرافاً للمستقبل، فكان كثيراً ما يذكر في مجالسه توقعاته المستقبلية والنتائج والآثار المحتملة، وهذه صفة تميزت بها شخصيته عن الآخرين، فقد كان الشيخ يعيش الحدث بماضيه وحاضره ومستقبله، وهذه نتيجة طبيعية للتكوين العلمي والثقافي السابق ذكره، فإذا جلست إليه واستمعت إلى حديثه فإن الحيرة تتملكك في تصنيفه، فهل هو شخصية سياسية، أم ثقافية، أم اجتماعية؟! وهذه تجعلنا نطلق عليه أنه شخصية موسوعية ذات أبعاد عِدَّة، ومن جوانبه الثقافية -وهي كثيرة- إلمامه بالجانب الجغرافي للبلدان ومسألة الطقس والأحوال الجوية التي كان يوليها اهتمامه الشخصي، فإذا سألته عن الجو وأحواله فستجد جواباً شافياً مبنياً على معلومات علمية وواقعية، وإذا ما سألته عن مكان فستجد أن الإجابة تتضمن عن تاريخه وتضاريسه وطبيعته بكل وضوح وكأنك تقرأ كتاباً في هذا الشأن، وكذلك المعارف العلمية العامة فله معها باع طويل، فحينما يتكلم عن مسألة علمية في العلوم فإنك سوف تقول في نفسك: هل أنا أمام مدرس في الأحياء أم في الفيزياء أم في الرياضيات؟ فالعجب يتملَّكك من موسوعيته، ولكن من يعرفه لا يستغرب ذلك! فتكوينه العقلي وقراءاته المتواصلة طوال عمره، وإثراءه المعرفي جعله أشبه ما يكون بموسوعة علمية معرفية، ولكنها موسوعة بشرية متحركة.
- البعد الفكري والدعوي:
كان -رحمه الله- ممن عاصر الصحوة المباركة منذ نشأتها، فقد عمل بعد تخرجه من الكلية في مهنة التدريس في ثانويات الرياض، وحمل رسالة التعليم دعوةً وتربيةً للأجيال، فلم يكن التدريس بالنسبة له وظيفة فحسب، بل كانت رسالة بذل فيها كل ما يملكه من نفس ومال ووقت ليتربَّى طلابه على الصلاح والاستقامة في الدين والخلق القويم، فكان نتاج ذلك طاقات فاعلة أخذت دورها البنَّاء في المجتمع، وبعض طلابه لهم اجتماع سنوي في مدينة الرياض كانوا يدعونه للحضور معهم، ففيهم المدرس والمهندس والقاضي والطبيب والداعية واستاذ الجامعة وغير ذلك ممن كانوا نتاج تلك التربية العميقة -عسى الله أن يكتب أجورهم في ميزان حسناته-.
ومما يُحسب له في الجانب الفكري والدعوي أن كان له إلمام واسع بالحركات القومية والشيوعية ومعتنقيها من أبناء المجتمع، وكان له معهم صولات وجولات في أثناء دراسته في معهد بريدة العلمي، وأثناء دراسته الجامعية في الرياض، ثم كانت متابعته للفكر الليبرالي بشقيه الليبرالي العلماني، والليبرالي الإسلامي (التنويري) كما يُسمَّى، وقد تابع هذا الأخير وتخصص فيه منذ أمد بعيد، راصداً لرموزهم وشخصياتهم ومقالاتهم وكتاباتهم وتقلباتهم الفكرية بشمول، وقد استقر به المطاف بأن ركَّز على هذا الفكر الليبرالي الإسلامي -إن صحت التسمية- حيث لا لقاء بينهما كما كان الشيخ يردد، فالشيخ خليفة من القلائل المتابعين لهذا الفكر متابعة دقيقة وشاملة، فأصبح بهذه المتابعات مرجعاً لهذا الفكر، وقد بدأ في التأليف حول الفكر وأصدر كتابه الأول (الليبراليون الجدد) في محوره الأول، وسيتلوه -بإذن الله- بقية المحاور، فعسى الله أن يعين أولاده ومحبيه في التعاون لإظهار بقية المحاور مطبوعة منشورة فيكون له هذا العلم النافع صدقة جارية تنتفع بها الأمة بعد مماته.
كان -رحمه الله- يرى الحوار والنقاش وسيلة مُثلى لإحقاق الحق وبيانه، ولطالما دخل في حوارات ونقاشات مع محبيه وروَّاد مجلسه يتفق معهم كثيراً ويختلف مع بعضهم قليلاً، لكنه يأنس بالحوار ويثريه، وإن كان -رحمه الله- شديداً في أحيان معينة في مواقفه، مما يراه يتطلب القوة، آخذاً بمبدأ الآية الكريمة: (خذوا ما آتيناكم بقوة).
وعن المؤامرة فكان كثيراً ما يردد على مسامع الحضور: إلى متى ونحن تعشعش المؤامرة في عقولنا؟ ومتى نتخلص من أسرها؟ فكان يرى أن نسبة كل شيء للمؤامرات خطأ، قائلاً: علينا أن نتعامل مع الواقع المعاش كما هو، وألا نكون نحن سبباً في نجاح الكيد والمكر، ولا يُفهم من قوله بأنه كان ينفي وجودها.
أما حياته مع الكتب اقتناء ومطالعة وقراءة فحدث ولا حرج فمكتبته مليئة بالكتب في شتى أنواع المعارف، وإن كان يغلب عليها الجانب الشرعي ثم الفكري والسياسي، وبعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت فقد مال الشيخ إلى استخدامها كثيراً حتى تكوَّن لديه إرشيف إلكتروني خاص إضافة إلى إرشيفه الورقي السابق قبل العصر الإلكتروني.
وأبو محمد كان شخصية فذة في عصره، وفي رأيي وغيري بأنه موسوعة لا كموسوعات الكتب، بل موسوعة متحركة تنمو وكانت تزداد يوما بعد يوم بمعلومات وثراءٍ فكري استشرافاً للمستقبل بمعطيات الحاضر، وشاء الله عز وجل وقدَّر سبحانه أن تتوقف هذه الموسوعة، حيث أصابه المرض الخطير في الأمعاء ثم انتقل إلى الكبد، وصار الجسم ضئيلا نحيلاً لا يكاد يحمل لباسه الذي يرتديه.
وأخيراً أقول بثقة: أن أبا محمد فقيد أمة وليس فقيد بلده الصغير الرس، أو فقيد وطنه السعودية لأنه كان يعيش هموم أمته لحظةً بلحظة، وسعى بأعماله ومشروعاته لحمايتها العقدية ونهضتها.
فرحمك الله أبا محمد وغفر لك.
المقال بملف وورد:
الشيخ خليفة في سطور – علي الزيدي
المقال بملف pdf: